القياسات العلمية .. السهل الممتنع
القياسات العلمية .. السهل الممتنع
القياسات العلمية .. السهل الممتنع
أ.د/ أحمد بن حامد الغامدي
أستاذ الكيمياء التحليلية – جامعة الملك سعود
على الرغم من أن الطريقة العلمية أو المنهجية العلمية تتكون من خطوات ومكونات عدة إلا أنه تنتشر في الأوساط العلمية مقولة (العلم هو القياس) Science is Measurement، وهذا وإن كان لا يلغي أهمية بقية (خطوات التفكير العلمي) الأخرى مثل التساؤل العلمي ووضع الفرضية والتنبؤ الاستنباطي إلا أن تلك المقولة ترسخ لمكانة القياس في دنيا العلم.
الكل يعلم أن المقصود من الحديث الشريف (الحج عرفة) توكيد أهمية هذا الركن العظيم، وهذا قطعًا لا يعني حصر مناسك الحج فيه، وكما أنه ليس لمن لم يقف بمشهد عرفة حج، فكذلك لا نصيب في العلم لمن لم يقم بإجراء القياسات التجريبية.
القياسات ليست فقط حجر الزاوية في صرح العلم الشامخ، بل لها أبعاد فلسفية شغلت عقول الفلاسفة والمفكرين من زمن أرسطو وحتى أمانويل، لدرجة أنها اليوم أصبح لها كيان مستقل تحت عنوان: (نظرية القياسات).
ينقل عن عالم الفيزياء البريطاني البارز اللورد كالفن قوله: (أن تقيس يعني أن تعرف) to measure is to know، ومن هذه الحكمة العميقة لعلنا نوظف ولع العلماء بالقياس لمحاولة (معرفة) بعض خفايا السلوك البشري للعلماء والباحثين، وكيف يسوقهم إدمانهم لإجراء القياسات، ليس فقط لإنجاز الأعاجيب في دنيا العلوم، ولكن أيضًا قد يكون ذلك الدافع سببًا في اجتراح الحماقات البحثية بالتزوير في سبيل ذلك أو حتى بخلق الأوهام العلمية وخداع النفس بالإيحاء باكتشاف ظواهر علمية وهمية. لقد ذكرنا في عنوان هذا المقال أن القياسات العلمية قد تكون في بعض الحالات سهلة وميسرة على الرغم من أن الأصل في بعض تلك القياسات والتقديرات العلمية أنها غاية في الصعوبة، ولا مثال أوضح يمكن ذكره في هذا السياق من القياسات العلمية الباهرة للعلماء القدامى قبل اختراع الأجهزة العلمية الحديثة.
قياسات علمية مذهلة لرواد العلم
قدرة الذهن البشري على الاكتشاف والاختراع مذهلة منذ فجر التاريخ، وحينما قد يتعجب البعض كيف تمكن الفراعنة مثلًا من بناء أعجوبة الدهر الخالدة (الأهرامات) نجد فئامًا من علماء اليوم يتعجبون كيف استطاع عالم الرياضيات الإغريقي إراتوستينس قبل أكثر من ألفي سنة من (قياس) محيط الأرض، وأنه يبلغ حوالي 24 ألف ميل بنسبة خطأ في حدود 4% فقط . بينما في تاريخ الحضارة الإسلامية توصل أبناء موسى بن شاكر في نهاية القرن الثاني الهجري لقياس محيط الأرض بدقة وصلت 99.62%؛ أي بنسبة خطأ أقل من نصف في المائة. وهذا عالم الفلك العربي الكبير البيروني يتوصل لحساب أن نصف قطر الأرض يبلغ حوالي 6325 كيلومترًا، في حين أن القيمة العلمية الدقيقة حاليًا هي 6371 كم؛ مما يعني توصله لدقة (قياس) مذهلة جدًا.
وربما القصة الأغرب من كل ما سبق تمكن عالم الفلك الإغريقي هيباركوس (عاش في القرن الثاني قبل الميلاد) من توظيف علم حساب المثلثات لقياس المسافة الفاصلة بين الأرض والقمر وتقديرها بأنها تبلغ 378 ألف كيلومتر، ولا يزيد الفرق بين (قياساته) الفلكية وتلك التي يمتلكها العلم المعاصر على 2 في المائة.
وفي الوقت الذي كانت العديد من الشعوب تنكر كروية الأرض نجد أن عالم الفلك الإغريقي أوينوبيديس يتوصل في حدود عام 450 قبل الميلاد إلى أن كوكب الأرض ليس فقط كروياً وإنما هو كذلك مائل عن محوره بزاوية انحراف تبلغ 24 درجة (القيمة العلمية الصحيحة لميل محور الأرض 23.4 درجة). ومن (القياسات) العلمية المذهلة التي تجعل الواحد منا تبلغ منه الحيرة منتهاها تمكن عالم الكيمياء الإنجليزي الشهير هنري كافنديش (مكتشف عنصر الهيدروجين) من التوصل في نهايات القرن الثامن عشر من حساب وزن كوكب الأرض، وأنه يبلغ ستة بلايين تريليون طن؛ أي بنسبة خطأ حوالي 1% فقط عن الرقم العلمي الحقيقي. وفي عام 1862م استطاع عالم الفيزياء الفرنسي ليون فوكو (قياس) سرعة الضوء، وأنها تبلغ حوالي 298000 كيلومتر بالثانية الواحدة، وهذه سرعة أقل بحوالي واحد في المئة من السرعة الحقيقية للضوء. وأخيرا قبل نهاية القرن التاسع عشر، وفي حين أن العديد من العلماء في تلك الفترة لم يكونوا مقتنعين بحقيقة وجود الذرات وأنها فكرة تخيلية وليست واقعًا حقيقيًا نجد أن عالم الفيزياء البريطاني الشهير جوزيف طمسون لا يكتشف الإلكترون فحسب، ولكنه كذلك وبصورة مذهلة (نظرا لضعف الإمكانات والأجهزة العلمية لذلك العصر) تمكن من (قياس) كتلة الإلكترون، وأنها أخف بحوالي ألفين مرة من كتلة ذرة الهيدروجين والتي هي (ويا للعجب) أقل من الجرام بمليون مليون مليون مليون مرة !!!.
القياسات والأمانة العلمية المفقودة
كما أن القياسات العلمية المذهلة السابقة الذكر رسخت في المجتمع العلمي التقدير والانبهار بتلك الثلة من رواد العلم نجد أن قائمة أخرى من قياسات علمية (مشبوهة) تسببت في إضفاء ظلال من الشك والريبة على الأمانة العلمية لبعض كبار مشاهير أهل العلم. على نسق المقولة المشهورة (أنت ما تأكله) نجد أن بعض أهل التنظير في دنيا العلم يقول (أنت ما تقيسه) you are what you measure ؛ لأنه ليس فقط من المهم أن تكون قياساتك العلمية صحيحة، لكن أيضًا ينبغي أن تكون قد توصلت لها من طريق صحيح وأمين؛ لأنه يقال أيضًا في مجال النصائح الأخلاقية في مجتمع العلم (الطريقة التي تقيس بها لا تقل أهمية عن الشيء الذي تقيسه).
بالفعل القياسات العلمية يصح عليها توصيف (السهل الممتنع)، فكما تمكن رواد العلماء القدماء من إجراء قياسات علمية نتعجب من دقتها، نجد في المقابل بعض مشاهير العلماء تعسرت عليهم بعض القياسات المختبرية لدرجة أن منهم من لم يتردد في التحايل والغش والتلاعب بالنتائج العلمية.
ومن أشهر الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا السياق أن العالم الإيطالي الأسطورة جاليليو يوصف في كتب تاريخ العلم بأنه مؤسس الطريقة العلمية الحديثة، وبالخصوص فيما يتعلق بفكرته العلمية في استنباط قانون الحركة للأجسام الساقطة.
لقد زعم جاليليو أنه توصل لهذا القانون عندما أجرى تجربته المشهورة بدحرجة عدد من كرات الرصاص فوق سطح مائل وقياس سرعة تحركها. وبعد عدة سنوات من نشر هذه الأفكار العلمية حاول بعض العلماء تكرار هذه التجربة، لكنهم لم يتوصلوا تمامًا لنفس تلك النتائج؛ مما جعل بعض المؤرخين يتهمون جاليليو بأنه قام بشكل متعمد بتعديل وتلفيق fabricate بيانات تجاربه، لتصبح متوافقة مع القانون الذي توصل إليه.
بلا شك قد يكون إسحاق نيوتن أكثر شهرة وأهمية في تاريخ العلم من جاليليو جاليلي، ولكنه في الوقت نفسه أكثر منه جرأة في التزوير وتلفيق نتائج القياسات العلمية.
قبل عدة عقود أثار المؤرخ الامريكي ريتشارد ويستفال ضجة كبرى في الأوساط العلمية عندما نشر كتابه المخصص عن سيرة حياة نيوتن. في هذا الكتاب تتبع ويستفال قيام نيوتن عبر السنوات بتلفيق وتزوير النتائج العلمية في كتاب نيوتن الشهير: المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية، وهو أهم كتاب على الإطلاق في تاريخ العلم. وبما أنه صدرت ثلاث طبعات من هذا الكتاب الهام (1687م و1713م و1726م) فقد وجد ذلك المؤرخ أن نيوتن كان في كل طبعة (منقحة ومزيدة) من كتابه ذلك يقوم بتعديل وتغيير البيانات العلمية، لتصبح متوافقة أكثر مع النظريات والقوانين العلمية، لكن دون أن يكون هذا التغيير مبنيًا على تجارب أو قياسات جديدة، وإنما فقط على تعديل متعسف من قبل نيوتن. ولهذا لا غرابة أن الأبحاث والتقارير والكتب العلمية الحديثة أصبحت لا تتردد على الإطلاق في وصف نيوتن بأنه (مزور أو محتال أو مفبرك …إلخ).
أحد الأسباب القوية التي قد تدفع كبار العلماء للتزوير وتعديل نتائجهم العلمية هي تعرضها للنقد العلمي، وهذا ما حصل مع نيوتن، فبعد أن نشر كتابه العلمي السابق الذكر تعرضت أفكاره العلمية لنقد حاد من بعض علماء ألمانيا وفرنسا، وبالأخص من عالم الرياضيات الألماني لايبنتز (بين نيوتن ولايبنتز تنافس علمي همجي أشرت لطرف منه في مقال: صراع ديكة العلم)، ولهذا كان نيوتن في كل طبعة جديدة من كتابة (ينقح) النتائج العلمية بشكل غير مهني، فقط ليسكت تلك الأصوات المعارضة.
أمر مشابه إلى حد ما حصل مع العالم البريطاني المعروف تشارلز دارون، الذي أضطر هو الآخر لإضافة تعديلات للطبعات المتلاحقة من كتابه المشهور (أصل الأنواع).
التزوير العلمي الذي وقع فيه دارون يتمثل في أنه تعمد في البداية عدم الإشارة بأمانة علمية كافية إلى المصادر التي استفاد منها في تطوير نظرية التطور. ومن ذلك أنه ربما قام باقتباس (أو ربما سرقة) بعض الأفكار والأمثلة العلمية من بحث عالم بريطاني مجهول يدعى إدوارد بليث، وهو الذي نشر أوراقًا علمية في موضوع الانتقاء الطبيعي والتطور قبل أن ينشر دارون كتابه بحوالي 24 سنة. عندما ظهر كتاب دارون في عام 1959م لم يذكر على الإطلاق في مراجعه العلمية أبحاث إدوارد بليث على الرغم من التشابه في الصياغة بينهما في بعض مواضع الكتاب، وكذلك في استخدام الكلمات النادرة واختيار الأمثلة. ولكن بعد ما أثار بعض العلماء المعاصرين لدارون فضيحة اتهامه بالسرقة العلمية اضطر في الطبعات الجديدة من الكتاب أن يشير للمصادر العلمية التي استفاد منها وتعمد في السابق إغفالها، لكي تظهر نظرية التطور وكأنها من نتائج أبحاثه العلمية فقط.
أنا لا أكذب لكنِ أتجمل