التطبيقات الممكنة للحمض النووري الريبي (RNA) في مجال الطب الشرعي
المقدم د. ماجد بن عايد الرويثي
الأدلة الجنائية – المملكة العربية السعودية
1. تمهيد
يلاحظ في هذا العصر أن الأبحاث العلمية أصبحت أقل جهداً وأقل تكلفة مادية، وذلك بسبب التقدم التكنولوجي المذهل الذي نعيشه وما صاحبه من تقدم علمي وتحول العالم إلى قرية صغيرة ساعد على اختصار سنوات البحوث العلمية التي كانت في الماضي. كما أن ذلك التقدم العلمي والتقني قد ساهم في تطور آلية وطرق البحث العلمي، ونشوء منظمات بحثية مستقلة، فأجريت أبحاث بتعاون عدة مختبرات في أماكن متعددة في العالم، بل أجريت أبحاث عملاقة وبتعاون دولي غير مسبوق.
ويعد العلم الجنائي أحد تلك العلوم الهامة التي كان للتقدم التقني دور في تطورها وبروزها في هذا العصر مقارنة بالماضي. فلا يخفى على الجميع وخاصة أولئك المهتمين بعلم الجريمة والمتابعين لها أن تبنّي مجتمع العلوم الجنائية لتقنية الحمض النووي الوراثي (DNA) واعتمادها في المختبرات الجنائية قد ساهم في حل وسبر أغوار العديد من القضايا الغامضة والمعقدة، سواء كانت جنائية أو إرهابية. ولقد ساعد على نجاح هذه التقنية ما شهدته العقود الأخيرة من تقدم تكنولوجي مذهل في الأجهزة المستخدمة ومحاليلها، وكذلك إجراءات الجودة والنوعية، والإجراءات التنظيمية المستخدمة.
إن النجاح المبهر لتقنية الحمض النووي الوراثي (DNA) قد زاد حماس الباحثين للبحث أكثر في جزيئات الحمض النووي الوراثي بأنواعه لحل رموز القضايا الجنائية، خاصة أنها تعتبر بنكاً لمعلومات هائلة. ويعد الحمض النووي الريبي (RNA) أحد مجالات البحث الحديثة للمختصين في العلوم الجنائية؛ ففي السابق لم تحض هذه الجزيئات بالاهتمام البحثي الكافي من قبل المختصين في العلوم الجنائية بقدر اهتمامهم بالحمض النووي الوراثي (DNA)، وذلك بسبب ما عرف عنها من سرعة التحلل والتلف.
وفي الفترة الأخيرة ومع التقدم الهائل لتقنية الحمض النووي الريبي (RNA) أثبتت التقارير العلمية استقراراً عالياً وبشكل غير متوقع لهذه الجزيئات في ظروف معينة؛ مما حفز الباحثين في مجال الطب الشرعي والعلوم الجنائية للبدء في العمل على استكشاف هذه الجزيئات، ومعرفة مدى الفائدة منها في المجال الجنائي. ويظهر عدد الأبحاث في هذا المجال خلال العقدين الأخيرين مدى زيادة اهتمام الباحثين في مجالي الطب الشرعي والعلوم الجنائية بهذا المجال. ولقد أثمر كثير من هذه الأبحاث عن نتائج علمية مبشرة بتطبيقات محتملة للحمض النووي الريبي (RNA) في مجال الطب الشرعي.
وخلال الأسطر التالية سأضع بين يدي القارئ الكريم بعض هذه التطبيقات المحتملة للحمض النووي الريبي (RNA) في مجال الطب الشرعي وبدون إسهاب للتعريف بها، واستقراء لمستقبلها في هذا المجال، مع إيماني الكامل بأن اجتماع معلومة علمية واعدة مع طموح باحث وحنكة عالم في وجود الأجهزة تقنية متقدمة كفيل بنقلة نوعية في أداء جهاز أو نظام وتطور دولة بل العالم بأسره.
2. استقرار الحمض النووي الريبي (RNA) بعد الوفاة
من المعلوم أن جزيئات الحمض النووي الريبي (RNA) تتحلل بعد الموت بسبب إنزيمات الريبونيوكليز (Ribonucleases) الموجود في الخلايا ذاتها و/أو تلك الناتجة من الخلايا البكتيرية أو بسبب تلوثات بيئية أخرى حول الجثة. كما أن العوامل الكيميائية والفيزيائية الأخرى تزيد التأثير التحليلي لهذه الإنزيمات.
إن سرعة تحلل جزيئات الحمض النووي الريبي (RNA) تختلف من عضو حيوي لآخر. فالأعضاء الغنية بإنزيمات الريبونيوكليز (Ribonucleases) كالكبد والبنكرياس يكون تحلل جزيئات الحمض النووي الريبي (RNA) فيها أسرع من الأعضاء الأخرى كالدماغ الذي أظهر استقراراً كبيراً لجزيئات الحمض النووي الريبي (RNA) بعد الوفاة استمر إلى ما يزيد على 96 ساعة. كما أن الدراسات التي أجريت على أنسجة الرئة للأجنة والأطفال حديثي الولادة، وشبكية العين, والعظام، أظهرت استقراراً لجزيئات الحمض النووي الريبي (RNA) ولمدة طويلة. بالإضافة إلى أن هناك دراسات أظهرت أن الحمض النووي الريبي الرسول (mRNA) يمكن كشفه بعد فترة من الوفاة عن طريق تقنية الـ RT-PCR. هذه الدراسات أثبت أن الحمض النووي الريبي (RNA) أظهر استقراراً بعد الوفاة، ويمكن قياسه باستخدام التقنيات الحديثة الأكثر حساسية كالـ RT-PCR.
3. تطبيقات الحمض النووي الريبي (RNA) في المجال الجنائي
3-1 تحديد نوع سوائل الجسم
إن تحديد نوع وأصل البقعة الحيوية المرفوعة من مسرح الجريمة خطوة هامة جداً في الفحص، وقد تكون مفصلية في تحديد العلاقة بين الدليل والجريمة. ومع أن تقنية الحمض النووي الوراثي (DNA) مكّنت الفاحصين من تحديد هوية مصادر البقع الحيوية المرفوعة من مسارح الجرائم حتى الضئيلة منها إلا أنها لا تعطي معلومات عن نوع هذه البقعة. وعادة ما يتم تحديد نوع عن طريق اختبارات افتراضية أولية لم تظهر خصوصية عالية لتحديد النوع عدا اختبار المني Prostate Specific Antigen (PSA). كما أن الدم الناتج من فعل جنائي كالقتل أو الاغتصاب لا يمكن تمييزه عن دم الحيض في حال وجوده في الموقع نفسه.
ولقد أظهرت الأبحاث على الحمض النووي الريبي الرسول (mRNA) تميّزه بمزايا حيوية هامة تجعله مناسباً لاستخدامه في تحديد نوع سوائل الجسم والبقع الحيوية، وملء هذه الفجوة. أولى هذه المزايا هي الحساسية العالية والناتجة عن استخدام تقنية الـ PCR وإمكانية التكثير. ثانياً: الخصوصية العالية للـ mRNA، حيث يوجد في الخلايا بحسب الوظيفة الحيوية للخلية أو العضو وهو ما يسمى التعبير الجيني (Gene expression). ثالثاً: إمكانية استخلاصه متزامناً في وقت واحد مع الحمض النووي الوراثي (DNA) مما يوفر الوقت والجهد. رابعاً إمكانية تجميع علامات سوائل الجسم في تفاعل واحد (multiplexing) مما يمكننا من فحص عدد من سوائل الجسم في اختبار واحد.
وبناء على الاختلافات الوظيفية للخلايا والأنسجة في الجسم فقد تم تحديد عدد من الـ mRNA تتميز بوجودها في سوائل معينة من الممكن استخدامها كعلامات لتأكيد نوع هذه السوائل, وسميت هذه العلامات علامات الحمض النووي الريبي (mRNA markers). ولقد تم تحديد العديد من الـ mRNA markers لمجموعة متنوعة من الأنسجة: الدم، ودم الحيض, والمني, واللعاب، والإفرازات المهبلية بناء على الاختلافات في وظائف هذه الأنسجة والخصوصية التي تظهرها هذه العلامة لهذا النسيج.
ومن أهم مميزات هذه العلامات عن الطرق التقليدية في تحديد نوع سوائل الجسم هو مقدرتها على أن تفرق دم الحيض من الدم عن طريق وجود metalloproteinases mRNA marker، الذي وجد أنه يظهر فقط في البطانة الحيضية للرحم. وتعتبر القدرة على تحديد دم الحيض إنجازاً هاماً، بالنظر إلى أن بقع الدم هي العينات الأكثر شيوعاً في مسرح الجريمة. كم أنه من الممكن وعن طريق هذه العلامات تمييز الإفرازات المهبلية عن سوائل الجسم الأخرى.
ان مقدرة هذه العلامات على تحديد نوع السوائل الحيوية، وخصوصا تلك التي لا يمكن تحديدها عن طريق الفحوص التقليدية، وكذلك المميزات التي تمتاز بها الفحوص باستخدام الحمض النووي الريبي من حساسية وخصوصية عالية وغيرها, يجعل هذه العلامات وسيلة مستقبلية مفيدة للغاية في تحديد الصلة بين الدليل والجريمة، ورفع قيمة الدليل المادي في القضايا الجنائية.
على الجانب الآخر, وعلى الرغم من أن عدداَ من الدراسات أثبتت أنه من الممكن استخلاص mRNA من العينات المخزنة لمدة تصل إلى 15 سنة فإنه لا بد أن يؤخذ في الاعتبار أن ظروف التخزين السيئة يمكن أن تؤثر على استقرار الحمض النووي الريبي أكثر من الحمض النووي، مما قد يؤدي إلى فشل استخراج الحمض النووي الريبي الذي قد يعطي نتائج سلبية كاذبة.
3- 2 تحديد عمر الجرح
إن تحديد عمر الجروح الخارجية والداخلية من الأمور الهامة في الطب الشرعي، حيث إنه يعطي الإجابة عن أربعة أسئلة في غاية الأهمية: ما هو الترتيب الذي تمت به الطعنات؟ وهل الجرح نتج قبل الوفاة أم بعدها؟ وما المدة التي بقي فيها المجني عليه على قيد الحياة بعد الإصابة القاتلة؟ وهل الجرح المفحوص متعلق بالحادثة أم لا؟
ويتم تحديد عمر الجرح في الطب الشرعي اعتماداً على ملاحظة التغيرات في الجزيئات المتفاعلة في حواف الجرح. وحيث إن تلك التغيرات تنتج عن تغيرات في النشاط الوظيفي للخلايا المناعية والنسيجية في منطقة الجرح يصاحبها إما زيادة في تركيز بروتينات موجودة بكمية قليلة أو إنتاج بروتينات جديدة, مما يدل على وجود تغير في التعبير الجيني (gene expression) ينتج عنه زيادة نشاط الترجمة (translation activity) على مستوى الريبوسوم داخل الخلية، وبالتالي إنتاج كميات جديدة من الـ mRNA. ذلك التغير في نوع وكميات الـ mRNA قد يستخدم كعلامة لتحديد عمر الجرح.
الوسائل التقنية الحديثة والمستخدمة حالياً في قياس كمية الـ mRNAتبشر بمرحلة جديدة في الطب الشرعي يتم فيها تحديد عمر الجرح عن طريق قياس كمية الـ mRNA. ويتطلب ذلك إجراء الدراسات اللازمة لتحديد الـmRNA marker المناسب، وتقييم تأثير الظروف الخارجية على ثباته. ولقد اكتشفت بعض الدراسات التي أجريت على مستوى الأنسجة الحيوانية عدداً من الـ mRNA markers التي تستمر لمدة 48 ساعة بعد حدوث الجرح والتي من الممكن استخدامها كوسيلة لتحديد عمر الجرح.
3-3 تحديد فترة ما بعد الوفاة
ان فترة تحديد الزمن الذي مر على الجثة منذ الوفاة أو ما يسمى “فترة ما بعد الوفاة” (Postmortem interval (PMI)) من الأمور الهامة جداً في الطب الشرعي. ويتم تحديد فترة ما بعد الوفاة باستخدام عدد من التقنيات مثل قياس التغير في درجة حرارة الجثة أو مدى تصلب العضلات وتحلل الجثة وغيرها.
ولقد أثار مؤخراً عدد من الباحثين إمكانية استخدام خاصية تدهور الحمض النووي الريبي لتحديد فترة ما بعد الوفاة. فقد أظهرت الدراسات التي أجريت في ظل ظروف الطب الشرعي أن هناك علاقة واضحة ما بين تدهور الـRNA وفترة ما بعد الوفاة والتي من الممكن استخدامها لهذا الغرض طالما تم تخزين الجثث في الظروف المحيطة المناسبة.
3-4 تحديد عمر البقع الحيوية