علي بن إبراهيم العلوي
مؤسس المجموعة العلمية لعلوم الأدلة الجنائية
يجتمع الناس على صعيد واحد يلبون دعوة الحق عبادة لله عز وجل (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج 27) يَفِدُ إلى هذه الديار ضيوف كرام، أعداد كثيرة تفوق المليوني حاج في المشاعر المقدسة، هذا الحشد يُعد من أكثر التجمعات في العالم، ويحوي الكثير من الأجناس، يضم ألواناً وألسنة مختلفة، وأعراقاً متنوعة جَمَعهم إيمان برب واحد ودين واحد، إلا أن ذلك الاختلاف والتنوع يؤديان إلى اختلاف في مستوى الثقافة والوعي العام.
إن تدفق هذه الوفود من الحجاج في أوقات محددة يزيد من ارتفاع معدل المخاطر وحدوث الكوارث البشرية -لا قدّر الله-، لقد تعرضت المشاعر المقدسة لعدد من الكوارث ففي عام 1395هـ حصلت حادثة توفي على إثرها 200 حاجاً في حريق ضخم بسبب انفجار اسطوانة غاز بمشعر منى، وفي عام 1410هـ حدثت كارثة أدت إلى مقتل 1426 حاجاً اختناقاً في أحد أنفاق مشعر منى وتدافع أعداد كبيرة سبب دهس بعض الحجاج بعض واختناقهم، وفي عام 1414هـ مات 270 حاجاً إثر تدافع الحجاج عند رمي الجمرات، وفي عام 1417هـ أدى حريق هائل في مخيمات مشعر منى إلى مقتل قرابة 343 حاج وجرح 1500 حاج، ولقد توالت كوارث الدهس في جسر الجمرات بسبب التدافع الأمر الذي أدى إلى مقتل المئات من الحجاج، وحتى عام 1436هـ الحادثة الأليمة التي راح ضحية لها مئات الأشخاص -رحمهم الله- كل هذه الأحداث جعلت سلامة الحجاج من أولويات اهتمام حكومة المملكة العربية السعودية التي أظهرت اهتماماً بالغاً في كل موسم حج من خلال إيجاد حلول مبنية على أسس علمية للوقاية من حدوث الكوارث وذلك بإنشاء وزارة الحج وتشكيل لجنة الحج العليا وتأسيس معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج تهدف كلها إلى خدمة الحجاج وتضم علماء وخبراء متخصصين اُستقطبوا لتطوير المشاعر المقدسة والتغلب على مخاطر الحشود والحد من أخطار السيول والحرائق وإعادة بناء جسر الجمرات وإنشاء قطار الحرمين، كل هذه الإنجازات وأكثر تسهل أداء هذه الفريضة العظيمة بأحدث التقنيات بما لا يتنافى مع قدسية المكان والزمان.
لقد صنف العلماء والخبراء المتخصصون في مجال الكوارث أنواعها إلى: كوارث مفتوحة وأخرى مغلقة، فالكوارث التي حصلت في المشاعر المقدسة تصنف ضمن الكوارث المفتوحة التي لا يمكن بسهولة حصر الحجاج قبل حدوث الكارثة بخلاف كوارث تحطم الطائرات التي توجد بالنسبة لها قوائم بأعداد المسافرين وطاقم الطائرة لتساعد في التعرف على الضحايا والمقارنة بين الأسماء والسمات الخاصة بالضحايا.
رَوى ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره) أخرجه الطبراني (حديث حسن).
وفي عبارة للقاضي كلارك عام 2001م يقول: “إن المجتمع المتمدن الحقيقي يقاس بمقدار الرحمة والتكريم اللذين يبديهما تجاه الموتى“.
تحصل الكوارث بشكل مستمر في العالم، وتُخلف الكثير من الضحايا، فلقد دمر إعصار تسونامي عام 1425هـ وعام 1427هـ ومؤخراً عام 1432هـ دولاً كثيرة وتسببت في قتل مئات الآلاف من الضحايا بسبب فيضانات وأمواج على إثر زلازل بحرية، وقد تحصل الكارثة على شكل حروب وقتل جماعي، وقد تحصل بفعل تفجيرات إرهابية كما حدث في أحداث سابقة في بلادنا الغالية، وكما حدث عام 1426هـ في تفجيرات مترو أنفاق لندن، أو قد تكون بتحطم طائرات أو دمار أبراج كبيرة كما حدث في برجي التجارة العالمي عام 1422هـ، أو غرق سفن كحادثة عبارة السلام المصرية. وجميع هذه الأحداث وغيرها جعلت العلماء والخبراء المعنيين بالكوارث يطورون من الطرق العلمية الحديثة في هذا المجال من خلال إعداد مؤلفات وعقد برامج تدريبية وورش عمل ومؤتمرات وتكوين فرق عمل دولية في مجال إدارة الكوارث وطرق التعرف على هوية ضحاياها وتوحيد طرق العمل حتى يتسنى مشاركة الدول الصديقة في التعرف على الضحايا وذلك بشراكة دولية بإشراف الشرطة الدولية (Interpol).
عند حدوث كارثة في أي منطقة -لا قدر الله- والإعلان الرسمي بأنها منطقة منكوبة يتطلب ذلك تجهيز فرق رسمية متعددة تقوم بمواجهة الكارثة حيث توزع المهام على عدد من الفرق الميدانية، منها فريق التعرف على ضحايا الكوارث (ما قبل الوفاة) (Ante-Mortem) وفريق التحقيق في مسرح الكارثة (CSI-team) وفريق التعرف على ضحايا الكوارث (ما بعد الوفاة) (Post-Mortem)، الشكل ١.
يقوم فريق التعرف على ضحايا الكوارث (ما قبل الوفاة) بإنشاء مكتب لرعايا الضحايا يرتبط مباشرة بعامة الناس لتلقي البلاغات وجمع المعلومات عن المفقودين وعن الكارثة من خلال ذويهم ومن هذه المعلومات يتم تصنيف المفقودين باحتمالية تواجدهم في الموقع أثناء الكارثة وجمع أكبر قدر من المعلومات عن الأشخاص كالبصمات والأنماط الوراثية من مركز المعلومات الوطني ومن المحتويات الشخصية للمفقودين إضافة إلى جمع المعلومات عن بصمات الأسنان من المراكز الطبية التي يتعالج فيها المفقودين وغير ذلك من المعلومات التي تخص الصفات الجسدية واللباس والمجوهرات ليتم نقل هذه المعلومات إلى فريق التحقيق في موقع الكارثة (CSI-team) الذي يباشر عمله في موقع الكارثة ويقوم بمهمة تقييم المخاطر وتوثيق الموقع والضحايا ومن ثم تحريز ورفع الجثث ونقلها إلى ثلاجات ميدانية.
وفي أثناء رفع جثث الضحايا يتم تجهيز مشارح ميدانية، حتى يتسنى لفريق التعرف على ضحايا الكوارث (ما بعد الوفاة) إجراء الطرق اللازمة للتعرف على الضحايا على أرض الواقع وذلك باستخدام أربع طرق رئيسية وهي بصمات الأصابع (Fingerprints) والفحوص الوراثية (DNA Profiling) وعلم طب الأسنان (Odontology) والأعضاء والأجهزة الطبية المزروعة في جسم الإنسان (Unique Medical) إضافة إلى تسجيل أوصاف الضحايا وملابسهم ومجوهراتهم والأوراق الثبوتية التي بحوزتهم، ثم يقوم الأطباء الشرعيون بتشريح الجثث لتحديد أسباب الوفاة والإستعراف على تلك الجثث بالوسائل العلمية الممكنة.
وعند تطابق المعلومات من الفرق الميدانية الثلاثة يتم التأكد من هويات الضحايا و تسليم جثامينهم إلى ذويهم لدفنهم أو ترحيلهم إلى بلدانهم.