رخصة النشر الالكتروني من وزارة الإعلام رقم: ٤٧٩٥٩٤

علم طب الأسنان الشرعي

د. صخر بن جابر القحطاني

رئيس وحدة طب الأسنان الشرعي بجامعة الملك سعود
ونائب رئيس اتحاد أطباء الأسنان الشرعيين العرب

طب الأسنان الشرعي والجنائي يعبر عن تقاطع علوم طب الاسنان مع القضاء. هذا التقاطع تنبع أهميته من خصائص موجودة في الاسنان تساهم في حل العديد من القضايا، وتساعد على توضيح الامور من نواح قانونية، ولنتعرف على هذه المزايا يجب فهم ما تمثله الاسنان من أهمية. الاسنان تتكون من ثلاثة أجزاء : المينا، العاج، ولب السن. لكل طبقة ميزات فريدة، فمينا السن (الطبقة الخارجية للسن والظاهرة في الفم) هي أكثر مادة صلبة في جسم الانسان، بحيث تتكون من بلورات عضوية تتحلل بسهولة بعد الوفاة، هذه الصلابة تجعل من المينا طبقة ميتة تتجدد في حال التلف، بينما على الصعيد الاخر تعد طبقة العاج مادة حية تتجدد وتنمو مع كونها متكونة من بلورات عضوية أيضا، ولكن نسبة المادة العضوية فيها كبيرة بشكل يسمح بوجود خلايا حية تستمر في ترسيب مادة العاج بمرور الوقت. الطبقة الاخيرة هي لب السن، وهي عبارة عن تجمع أوردة وشرايين وأعصاب تغذي طبقة العاج. يبدأ تكون الاسنان من الشهر الثالث في الحمل، ويستمر إلى سن الثالثة والعشرين من العمر. هذا النمو والتكون يمر بمراحل محددة معروفة يمكن رؤيتها من خلال الاشعة السينية، كما أنه معروف المدة الزمنية لكل مرحلة من مراحل نمو الاسنان. ومن أهم ميزات نمو الاسنان هو استقلاليتها عن العوامل الخارجية كالتغذية والمناخ، وعن العوامل الداخلية كاختلاف الاعراق والامراض؛ فعندما يبدأ السن بالتكون فإنه يستمر بلا توقف حتى ينتهي النمو، بعكس نمو الانسجة الاخرى في الجسم كالعظام والعضلات التي تتأثر بشكل كبير بهذه العوامل. ومن ميزات الاسنان وجودها داخل التجويف الفموي الذي يشكل عامل حماية من العوامل الخارجية كالحرايق مثلا. هذه الميزات جعلت للاسنان أهمية عظمى في حالات القضاء التي سنأتي على ذكر بعضها بالتفصيل.

 

تقدير الأعمار:

معرفة العمر الحقيقي هو من أهم حقوق الإنسان، خصوصا في هذا العصر؛ فالعمر يحدد جاهزية الطفل لدخول المدرسة، متى يكون مسؤولا قانونيا؟ متى يسمح للشخص بالزواج؟ ومتى يتقاعد؟ حسب منظمة الامم المتحدة للطفولة فإن أي شخص تحت عمر الثامنة عشرة يعتبر طفلا ، ويترتب على هذا الامر العديد من القوانين الدولية للطفل. عادة يتم معرفة العمر اعتمادا على شهادة الميلاد والاوراق الثبوتية، ولكن في بعض الحالات توجد هذه الأوراق إما لعدم تسجيل حالة الولادة أو عدم إصدار شهادة ميلاد، وهو ما يحدث في أكثر من ثلث حالات الولادة حول العالم بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، أو بسبب ضياع أو تلف الاوراق الثبوتية أو نسيانها كحالات الهرب المفاجئ في الحروب أو تعمد نسيانها أو إتلافها في حالات المهاجرين غير الشرعيين. في هذه الحالات يعتمد القضاة على محاولة معرفة العمر بالاستعانة ببعض المؤشرات الحيوية في جسم الانسان، مثل الطول والوزن، تكون ونمو العظام والاسنان، والتحليل النفسي وا جتماعي .هذا فيما إذا كان مجهول العمر على قيد الحياة، أما في حالات الجثث أو الهياكل العظمية مجهولة الهوية والمقابر الجماعية، فالاعتماد الكلي يكون على العظام والاسنان. تقدير عمر الانسان يكون بتحديد المرحلة الحيوية بالمرحلة الزمنية لمؤشر حيوي معين، مثل الطول والوزن والبلوغ وغيرها. ولكن ليكون التقدير دقيقا يجب اختيار مؤشر حيوي يمتلك خصائص معينة تشمل: يجب أن تكون فترة نمو وتكون هذا المؤشر تغطي فترة طويلة من حياة الانسان، ويجب أن يكون لهذا النمو مراحل معروفة تتم على فترات قصيرة محددة الزمن. كما يجب أن يكون هذا المؤشر ثابتا، و يتأثر بالعوامل الطبيعية مثل التغذية والحالة الصحية، و يتأثر باختلاف الاعراق. فإذا أخذنا النمو الطبيعي للجسم من ناحيتي الطول والوزن، نجد أنها تتأثر بشكل كبير بطبيعة التغذية والحالة الصحية، وأيضا المناخية للشخص، لذا فإن استخدامها يعطي تقديرا دقيقا. العظام تعتبر أفضل من هذه الناحية، حيث إن نمو وتكون العظام يتم على مراحل معروفة، وتمتد لفترة طويلة من عمر الانسان، ولها أهمية كبيرة في تقدير عمره، خصوصا في حالات الهياكل العظمية، ولكن العظام تتأثر بالتغذية والاختلاف العرقي بشكل كبير؛ فطفل العاشرة في الهند قد يماثل طفل الثامنة في ألمانيا، وكلاهما ينمو بشكل طبيعي، كما أن العظام تتأثر بعد الوفاة بالتحلل الطبيعي بشكل كبير.

 

 للأسنان أهمية كبرى من حيث كونها تنمو وتتكون على شكل مراحل معروفة في فترة زمنية يتغطى ثلث معدل عمر الانسان، وهي لا تتأثر بتاتا بالتغذية أو الحالة الصحية للشخص أو الاختلاف العرقي، كما تتمثل أهميتها أيضا في أنها تتحلل بعد الوفاة، وتتحمل حتى الحرائق شديدة الحرارة، وأحيانا هي الشيء الوحيد الذي يتبقى. لهذا انصب اهتمام الكثير من العلماء على الاسنان، ووضعوا العديد من الطرق لتقدير العمر باستخدام الاسنان. لكن للاسف جميع الطرق الموضوعة كانت تحمل في طياتها مشاكل كثيرة كعدم اشتمالها على كل الاعمار أو اعتمادها على أسنان معينة وتنجح هذه الطريقة إلا بوجودها، فإذا فقدت لم تعد ناجحة. بعد أن تم نشر الاطلس (المرفق) اعتمده بشكل فوري اتحاد أطباء الاسنان البريطانيين والجمعية النيوزيلاندية والاسترالية لعلوم طب الاسنان الشرعية، وتمت ترجمته إلى العديد من اللغات، وبدأت العديد من كليات طب الاسنان وكليات علوم الانسان وطب الاسنان الشرعي في أوروبا وأمريكا بتدريسه، واعتمدته العديد من المتاحف العالمية لتقدير أعمار الهياكل العظمية والموميات الموجودة لديهم. كما خضع هذا الدليل للتجربة الحية عندما اُستخدم لتقدير أعمار ضحايا المقابر الجماعية في البوسنة، وحرائق الغابات بأستراليا، وزلزال نيوزيلندا وتسونامي اليابان. واصلت العمل على هذه الطريقة في رسالة الدكتوراه، واختبرت دقته باستخدامه لتقدير العمر لأكثر من ١٥٠٠ شخص ومقارنته بالعديد من الطرق الاخرى، واتضح أن دقته تكون في حدود ستة أشهر من العمر الحقيقي، وهو ما يعد مقبولا قانونيا، بينما جميع الطرق الأخرى تعطي نتائج صحيحة مع فارق يتعدى السنة ويصل إلى سنتين من العمر الحقيقي. بعد أن تم نشر هذه الدراسة عام ٢٠١٤م، وخضع هذا الدليل للاختبار من قبل علماء ومجموعات بحثية حول العالم بدأ يثبت نفسه كطريقة دقيقة سهلة لتقدير عمر الانسان، وبدأت الدول تدرجه كطريقة معتمدة لتحديد أعمار المهاجرين غير الشرعيين، خاصة أنه يحدث بشكل يومي، وتم استخدامه من قبل القضاء والمتاحف بشكل عام، وكانت الولايات المتحدة الامريكية آخر دولة انضمت للاعتماد القانوني لهذا الدليل في اجتماع البورد الامريكي لطب الاسنان الشرعي في أورلاندو فبراير ٢٠١٥م، ولاحقاً من قبل الانتربول الدولي في مايو ٢٠١٥م.

 

تحديد الهوية:

مع كل التطورات التي يشهدها العالم في شتى المجالات، ما زالت الجريمة منتشرة في كل المجتمعات، إضافة إلى أن حوادث القتل الفردي من قبل أشخاص أو القتل الجماعي من قبل منظمات أو دول منتشرة بكثرة، كما أن الاوضاع الامنية أو المعيشية الصعبة دفعت الكثير للهجرة طلبا لحياة آمنة وكريمة حتى وإن كانت هذه الهجرة غير شرعية، ولو أدت إلى الوفاة كحوادث القوارب على سواحل إيطاليا وماليزيا، فضلا عن الكوارث التي تحصد أرواح كثيرين في وقت واحد كالزلازل والفيضانات وحوادث الطائرات والقطارات أو حوادث تفجير الاماكن العامة التي تؤدي إلى تشوه الجثث واختلاطها ببعض. في ظل هذه الظروف بات من الأهمية تحديد هوية أي جثة غبر معروفة لاسباب إنسانية وأمنية و لاسباب قانونية أيضا كحالات دفع التأمين على الحياة. وهذه الأهمية لا تقتصر على الضحية فقط، بل تتعداها إلى ذويه الذين يمكن أن يتجاوزوا مرحلة الحزن إن لم يتم التعرف على معارفه. عدم تأكد الشخص من وجود جثة حبيبه أو قريبه يجعله يعيش في حالة حزن دائم وفي دوامة من الالم والامل بوجود هذا الشخص على قيد الحياة، بعبارة أخرى فإن جرح فقدان شخص عزيز يبقى مفتوحا وينزف على مر السنين . ومثل هذه الحالات كثيرة وموجودة، خصوصا بعد كارثة تسونامي ٢٠٠٤ التي خلفت أسرا مازالت في حالة حداد وألم، على الرغم من مرور ١١ سنة على الكارثة؛ والسبب عدم العثور على الجثث وتحديد هويتها. للاسنان دور كبير ومهم في تحديد الهوية، فكل إنسان له تطابق أسنان خاص. وترتيب الاسنان في الفم يحمل بصمة خاصة لا تقل أهمية عن بصمة اليد، كما أن وجود حشوات أو تركيبات أو أمراض فموية يزيد من فردية هذه البصمة الفموية -إن صح التعبير، كذلك فإن وجود لب السن تحت طبقات السن الصلبة وداخل التجويف الفموي المحمي يجعله من أهم الاماكن للحصول على الحمض النووي للانسان في حال تلف أنسجة الجسم الاخرى. هذه الميزات جعلت من الاسنان معرفا رئيسيا يتساوى في الاهمية مع الحمض النووي وبصمة اليد والاصابع. هذه المعرفات الرئيسية الثلاثة يجب توافرها في أي فريق تحديد الهوية وأي نقص في أحدها يجعل في نتيجة التحديد نقصا يؤثر قضائيا وإنسانيا في سير العدالة.

بعد عودتي من المملكة المتحدة إلى جامعة الملك سعود حرصت على تأسيس وحدة لطب الاسنان الشرعي، وهذا التخصص على أهميته يعتبر في المهد في الوطن العربي، وغائب تماما أكاديميا، وتهدف هذه الوحدة لأن تكون مرجعا إقليميا للمهتمين والمختصين والباحثين والجهات التنفيذية الامنية والقضائية. ومن هذا المنبر أشكر جامعة الملك سعود وكلية طب الاسنان على دعمهم، وإيمانهم بأهمية وجود هذه الوحدة الوحيدة عربيا، وكان لهم السبق في ذلك وهو شيء غير مستغرب منهم.

وتم اختياري مؤخرا لأكون عضوا في مجموعة عمل طب الاسنان الشرعي والجنائي في الانتربول، وقد قدمت مقترحا بإنشاء مجموعة تطوعية عالمية لأطباء الاسنان الشرعيين لحفظ حقوق الانسان، نظرا لندرة التخصص، وعدم وجوده في كل الدول، وقد قوبل الاقتراح بالكثير من الحماس، وتبنته “الانتربول”، وانضم ١٥٥ طبيب أسنان شرعي من ٤٥ دولة حتى الآن، والقادم أفضل – بإذن الله.

للمزيد يمكنكم الاطلاع على:

https://www.qmul.ac.uk/dentistry/atlas/ 

AlQahtani S J, Liversidge H M, Hector M P (2010). Atlas of tooth development and eruption. American Journal of Physical Anthropology 142(3):481-90.

  1. AlQahtani S J (2008). Atlas of tooth development and eruption. Barts and the London School of Medicine and Dentistry. London, Queen Mary University of London. MClinDent.

معجب بهذه:

إعجاب تحميل...

احصل على نسختك الآن

%d مدونون معجبون بهذه: