سلامة إجراءات التعامل مع الأدلة المادية في مسارح الحوادث
د. علي بن سعيد الشمراني
قسم الأنظمة – كلية الشريعة والأنظمة – جامعة الطائف
مقدمة:
إن كل حادثة سواء كانت جريمة أو صراعاً مسلحاً أو غير ذلك تترك آثاراً مادية في مسرح وقوعها. هذه الآثار تعتمد على التصرفات الأولية في مسرح الحادثة، الذي يعتبر بمثابة نقطة الانطلاق الأولى والرئيسية لفهم كيفية وقوع الجريمة. فالتصرف بعناية ومهنية في التعامل مع الأدلة المادية، والمحافظة عليها من العبث، ونقلها بطرق علمية وفنية صحيحة وفقاً للأصول القانونية والعملية يساعد جهة التحقيق في فهم ظروف وكيفية حدوث الحادثة، وتفسير الحقائق تفسيراً صحيحاً، وإعادة تمثيل الأحداث، وفهم ما جرى، ثم رفع ذلك للجهات القضائية والعدلية لتحقيق العدالة.
تمهيد:
سيتم تقسيم هذا المقال إلى أربعة محاور. المحور الأول يتحدث عن قيمة الأدلة المادية وأنواعها، وكذلك التوثيق المتسلسل والدقيق للأدلة لإثبات مدى ارتباطها بحادثة ما. الحفاظ على مسرح الحادثة وأدلته سيكون المحور الثاني في هذا المقال. بعد ذلك، سيتم الحديث عن توثيق مسرح الحادثة. الاعتبارات القانونية والأخلاقية في مسرح الحوادث سيكون المحور الأخير. يهدف هذا المقال إلى بيان الإجراءات القانونية الصحيحة للتعامل مع الأدلة المادية لحادثة ما في مسرح الحادثة.
أولاً: قيمة الأدلة المادية وأنواعها
الأدلة المادية هي ما يعثر عليه المختصون في مسرح الحادثة أو على جسم المتهم أو المجني عليه أو الأداة المستخدمة في الجريمة. ويمكن القول بأن الدليل المادي عبارة عن حالة قانونية تنشأ من استنباط أمر مجهول من نتيجة فحص علمي أو فني لأثر مادي تخلف عن جريمة، وله من الخواص ما يسمح بتحقيق هويته أو ذاتيته. الأدلة المادية قد تكون أجساماً ضخمة، وقد تكون بالغة الدقة، وتستخرج من مسرح الحادثة أو من المواقع ذات الصلة. للأدلة المادية قيمة ودور بالغ الأهمية، إذ إنه بدون هذه الأدلة يصعب التوصل إلى معرفة الحقيقة. ويتوقف هذا الدور على التصرفات الأولية في مسرح الحادث.
إن التصرف بعناية ومهنية طوال فترة التحقيق والتحري في مسرح الحادثة عنصر بالغ الأهمية لقبول الأدلة للأغراض القضائية، كما أن التوثيق المتسلسل والدقيق للأدلة لمعرفة مدى ارتباطها بجريمة ما، وكذلك إثبات كل خطوة بمفردها يضمن استمرار الأدلة وسلامتها من مسرح الحادثة إلى قاعة المحكمة.
يمكن تقسيم الأدلة المادية إلى صنفين رئيسين: الصنف الأول هو الأدلة القابلة للرفع أو النقل من مسرح الحادثة. هذا النوع من الأدلة لا يشكل صعوبة في التعامل معه، سواء في نقله أو رفعه. على سبيل المثال، إذا وجد أثر لطبعة إصبع على زجاج شباك غرفة، فإن الخبير يستطيع نقل الآثار الجرمية من مكان الحادثة بواسطة أدوات خاصة وتصديرها، وبعد ذلك نقلها بواسطة الجيلاتين إلى المكان الذي يريد. ثانياً: الدليل غير القابل للرفع أو النقل؛ هذا النوع لا يمكن أن يتم التعامل معه بالرفع أو النقل إلا في حالات التصوير أو صب القوالب بواسطة مواد خاصة بذلك.
ثانياً: الحفاظ على مسرح الحادثة وأدلته
للمحافظة على محتويات مسرح الحادثة من العبث عن طريق الجناة أو عن طريق عوامل أخرى، هناك إجراءات يجب اتخاذها لتأمين وحماية الأدلة. من بين هذه الإجراءات، تحديد مسرح الجريمة وعزله بواسطة شريط عازل على كامل حدوده عن طريق رجال الأمن وإقفال جميع المداخل المؤدية إلى مسرح الجريمة، لأن عدم تطويق مسرح الحادثة وحفظه على النحو الواجب قد يغير في الأدلة ويلوثها ويفسدها.
إخلاء أي أشخاص غير ضروريين دخلوا إلى مسرح الجريمة قبل فرض الطوق عليه، ويتم تسجيل هذه المعلومات، كما يتم منع أي أشخاص غير ضروريين من الدخول إلى مسرح الجريمة طوال مدة التحقيق، ومن بداية عملية التحقيق والتحري في مسرح الحادثة حتى نهايتها، لأن اشتراك عدد أكبر من اللازم أو إشراك أفراد غير مناسبين يؤدي إلى خطر الإضرار بأدلة مهمة.
رفع الأدلة بالطريقة السليمة، ووضعها بداخل الحاوية الخاصة لهذا النوع من الأدلة، فمثلاً بعض الأدلة يجب أن توضع داخل حاويات محكمة الإغلاق، وذلك للمحافظة عليها من التبخر، وهناك أدلة يجب أن توضع في حاويات ذات مسامات للمحافظة عليها من التعفن، وبعضها يجب أن يوضع داخل حاويات تمنعها من الحركة، لأن احتكاك الدليل بسطح الحاوية يمكن أن يؤدي إلى تلفه، وهذا ينطبق على الأدوات التي عليها بصمات مثلاً، كما أن بعض الأدلة يجب وضعها في مكان بارد أثناء نقلها من مسرح الحادثة إلى جهة الفحص للمحافظة عليها.
ارتداء ملابس وقفازات وأغطية واقية وارتداؤها بشكل صحيح من جانب الأفراد العاملين في مسرح الحادثة، حيث إن مخالفة ذلك قد يؤدي إلى تلوث المسرح مما قد يغير مسار التحقيق في الحادثة. كذلك قد يتعرض العاملون إلى مخاطر صحية أثناء مباشرة المسرح بدون ارتداء الملابس الواقية.
ثالثاً: توثيق مسرح الحادثة
واحد من أهم الجوانب في التحقيق في حادثة ما، هو توثيق مسرح الحادثة. نشأ الاهتمام بالتوثيق الدقيق لحالة مسرح الحادثة بسبب صعوبة الحفاظ على مسرح الحادث دون عبث لفترة طويلة. وهناك ثلاثة طرق يمكن من خلالها الاحتفاظ بالتفاصيل الدقيقة للمسرح وهي: الصور، والرسم، والملاحظات.
يعتبر التصوير الطريقة الأهم لتسجيل شكل وحالة الأدلة في مسرح الحادثة، لأنه لا يخضع لاحتمالية حدوث أخطاء بشرية في نقل المعلومات عن حالة الدليل، كما لايتطلب لمس الدليل، وبالتلي لا يعرض الدليل إلى التلف والتلوث. لهذا السبب تحديداً، على المصور ألا يقوم بتعديل أي شيء يقوم بتصويره نهائياً لأي سبب كان. كما يجب عليه تصوير الدليل من كل الجهات، ويجب عليه أيضاً تصوير الجليل وحده ثم تصويره بالنسبة لأشياء أخرى توجد حوله لخلق نقاط مرجعية تمكن المحقق من معرفة علاقة الأدلة ببعضها مكانياً.
في النهاية يتم تسجيل كل ما لا يمكن التعبير عنه بالصور والرسم في صورة كتابية يتم إرفاقها بالأدلة عند إرسالها للفحص لاستخدامها في الحكم في القضية. ويشمل هذا التسجيل بيان الوصول إلى مسرح الحادثة ووضعية الأبواب والنوافذ والظلال … إلى آخره. ويتم كذلك تسجيل أي شخص موجود في المسرح وأي شخص يدخل إليه أو يخرج منه، وأية تغيرات تحدث في مسرح الحادثة.
رابعا: الاعتبارات القانونية والأخلاقية في مسرح الحوادث
مع أن هناك مبادئ عامة تتعلق بالتحقيقات في مسرح الحادثة، فإن القوانين والنظم والقواعد المحلية تحكم العديد من أنشطة التحقيق في مسرح الحادثة وعملية التحليل الجنائي. وهي تتعلق بمسائل منها كيفية الحصول على إذن بالدخول إلى المسرح، وإجراء التحقيق، ومناولة الأدلة (كنوع الإجراء المطلوب لحفظها)، وتقديم الأدلة المادية إلى مختبر التحليل الجنائي هي التي تحدد مدى القبول بالأدلة التي تم جمعها في مسرح الحادثة. وقد يؤدّي عدم التقيد بالقوانين والقواعد واللوائح التنظيمية القائمة إلى حالة لا يمكن معها استخدام الأدلة في المحكمة.
من الأمثلة على عدم التقيد بالأنظمة والقواعد التنظيمية، انتقال افراد الشرطة إلى مسرح الحادثة دون مرافقة أحد من أعضاء هيئة التحقيق والادعاء العام. قد يعود السبب في ذلك إلى قلة أعداد أعضاء الهيئة، ووجهة نظري أن ينتقل ضابط الشرطة إلى مسرح الحادثة في القضايا التي تكون دون القتل بعد أن يبلغ عضو هيئة التحقيق والادعاء العام بانتقاله، وأما قضايا القتل والقضايا الجنائية فإن وجود عضو هيئة التحقيق والادعاء العام مهم في مسار التحقيق والادعاء العام.
كذلك التجمهر حول مسرح الحادثة يعتبر من المخالفات القانونية والذي من شأنه أن يخفي الحقائق أو يغير بعض الأدلة المادية في مسرح الحادثة. كذلك فإن الملاحظ عند وقوع حادثة ما، نجد أشخاصاً يقومون بالتصوير أثناء الحادثة، وهذا الفعل مخالف للأنظمة، وقد يؤثر على مسار التحقيق والمحاكمة بعد ذلك. الواجب على رجال الضبط الجنائي منع أي شخص من الاقتراب من مسرح الحادثة أو العبث بالأدلة حفاظاً عليها. نصت الأنظمة في المملكة العربية السعودية على أن لرجل الضبط الجنائي أن يمنع الحاضرين من مبارحة مكان الواقعة والابتعاد عنه، حتى يحرر المحضر اللازم بذلك. وله أن يستدعي في الحال من يمكن الحصول منه على معلومات في شأن الحادثة، وإذا خالف أحد الحاضرين الأمر الصادر إليه من رجل الضبط الجنائي أو امتنع أحد ممن دعاهم عن الحضور، فيثبت ذلك في المحضر، ويحال إلى المحكمة المختصة لتقرير ما تراه في شأنه.
قد يعود السبب لوجود مثل هذه الممارسات الخاطئة سواء من رجال الضبط الجنائي أو من الأشخاص المتواجدين في مسرح الحادثة إلى عدم الوعي بالأنظمة والقواعد واللوائح التي تنظم مثل ذلك، وأذكر على سبيل المثال نظام الإجراءات الجزائية الصادر عام ١٤٣٥هـ فقد تطرق إلى عدد من المواد التي تتعلق بجمع المعلومات وضبطها وكذلك التلبس بالجريمة والقبض على المتهم وتفتيش والمساكن … إلخ.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك التزامات أخلاقية على العاملين في مسارح الحوادث تتطلب منهم التصرف بعناية ومهنية وبذل العناية الواجبة ومعاملة الأدلة على أساس ما تُظهره، لا ما تعتقد أنها تظهره وإعطاء الأولوية دائماً للرعاية الطبية الطارئة.
فلو كان هناك صراع بين حفظ الأدلة وإمكانية إنقاذ حياة بشرية، فإن الأولوية تُعطى دائماً للرعاية الطبي الطارئة. كذلك ينبغي للعاملين في مسارح الحوادث احترام الأفراد وكرامتهم الإنسانية أثناء فحص الأدلة المادية وجمعها من الجثث أو الأحياء، واحترام خصوصة الضحايا.
خامساً: الخاتمة
بناء على ما سبق، فإنه ينبغي لعضو هيئة التحقيق والادعاء العام أن ينتقل إلى مسرح الحادثة فور وقوعها واتخاذ الإجراءات النظامية والتي من شأنها أن تضمن سلامة الأدلة المادية في مسرح الحادثة. في حالة القضايا الجنائية كالقتل فإنه ينبغي أن يرافقه الطبيب الشرعي، وكذلك رجال الضبط الجنائي (الشرطة). وختاماً، فإن كثيراً من الممارسات المخالفة للأنظمة في مسرح الحوادث تقع نتيجة قلة الوعي القانوني بما ينبغي فعله، وما ينبغي تجنبه في المسرح. لذا نبغي أن يكون العاملون في مسرح الحادثة، وكذلك الأشخاص المتواجدون حول المسرح ملمين بالأنظمة والتعليمات وأن يتقيدوا بها، بالإضافة إلى الالتزامات الأخلاقية للمهنة للعاملين في هذا المجال المهم.
المراجع:
1. Abdullah Mohammed Al-Yousuf, The concept of a scene between the indication and proof, (Medical evidence and effects of contemporary jurisprudence), Imam Mohammed ibn Saud Islamic University, 2014, pp. 20 – 26.
2. United Nations Office on Drugs and Crime,Crime scene and physical evidence awareness for non-forensic personnel, Vienna, July 2009, pp. 4 – 12.
٣. الرشيدي، طه السيد، الطبيعة الخاصة لجرائم تقنية المعلومات وأثرها على إجراءات التحقيق في النظام الجزائي المصري والسعودي، مجلة البحوث الفقهية والقانونية، كلية الشريعة والقانون، دمنهور، جامعة الأزهر، العدد، 28، المجلد الأول، 2013، ص. 272 – 287.