رخصة النشر الالكتروني من وزارة الإعلام رقم: ٤٧٩٥٩٤

الروايات البوليسية بين الكيمياء والأدب

أ. د/ أحمد بن حامد الغامدي

5/5

إرهاصات الجريمة المحكية

بالرغم من كون الرواية البوليسية (البعض يطلق عليها رواية الجريمة أو الرواية الجنائية) من أحدث أنواع الرواية الأدبية بعد الرواية الرومانسية والتاريخية والأسطورية وقصص الخيال العلمي، حيث لم تنتشر بشكل ملحوظ إلا في بداية القرن العشرين وإن كان أقدم أمثلتها الموثقة تعود لمنتصف القرن التاسع عشر عندما اخترع الأديب الأمريكي البارز إدغار ألان بو شخصية المحقق أوغست دوبين في رواية (جرائم شارع المشرحة)، على كل حال بالرغم من الحداثة النسبية للرواية البوليسية إلا أنها ومنذ عقود طويلة أصبحت من أكثر الروايات والأعمال الأدبية انتشاراً جماهيرياً ومردوداً مالياً بغض النظر عن ضعف القيمة الأدبية لأغلب الروايات البوليسية.

ويبدو أن سبب الشعبية الجارفة لأدب القصص البوليسية يعود لانجراف شرائح كبيرة من القراء للغموض والتشويق والمغامرات والمؤامرات التجسسية.

ولعل أشهر القصص البوليسية التي بلغت الآفاق روايات المحقق الإنجليزي الألمعي (شرلوك هولمز)، ومساعده المخلص الدكتور واطسن، وهما الشخصيتان اللتان اخترعهما الروائي البريطاني آرثر كونان دويل.

وللدلالة على الانتشار الواسع للروايات البوليسية يكفي أن نقول إن الروائية الإنجليزية المشهورة أجاثا كريستي الملقبة (بملكة الجريمة) ترجمت رواياتها الجنائية لجميع لغات العالم، وبيع أكثر من مليار نسخة من قصصها، بل يقال إن رواية (ثم لم يبقَ أحد) وحدها فقط بيع منها أكثر من مائة مليون نسخة، علما أنه من الثابت أن (أجاثا كريستي) نشرت حوالي ثمانين رواية من أدب الجريمة، وباحتمالية أن يكون بيع من كل رواية عدة ملايين على الأقل فهذا يجعل من أجاثا كريستي أكثر شخصية أدبية انتشاراً في التاريخ، حيث ربما فاق عدد قرائها عدد قراء شكسبير !!.

وفي العالم العربي نجد الأجيال القديمة من الشباب المراهق استمتعت بشغف بالاطلاع على روايات اللص الظريف (أرسين لوبين) التي ابتكرها الكاتب الفرنسي موريس لوبلان، وسلسلة قصص (المغامرون الخمسة) المصرية الشهيرة من تأليف الكاتب محمود سالم، بينما في المقابل فإن القصص البوليسية الشائعة لدى أطفالنا وشبابنا اليوم هي مغامرات (المحقق كونان) الواسعة الانتشار؛ بسبب المسلسل الكرتوني الياباني الشيق.

الحبكة الكيميائية في سياق القصة البوليسية

في الواقع أثارت شعبية وانتشار القصص البوليسية اهتمام علماء النفس وعلماء الاجتماع على حد سواء، لتفسير هذه الظاهرة الاجتماعية الصارخة، وهو ما شجع كثيراً العديد من منسوبي العلوم والمعارف البشرية ليدلي كل بدلوه في دراسة هذه الظاهرة الإنسانية. وهذا ما حفز لمثل هذا المقال الذي يسعى هو الآخر بدوره لاستكشاف معالم الترابط المحتمل بين عوالم أدب الجريمة والعلوم التقنية ممثلة في علم الكيمياء.

سبق أن ذكرنا أن الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي Agatha Christie هي أكثر شخصية أدبية في التاريخ تمت قراءة أعمالها الأدبية بواسطة مئات الملايين من البشر وعبر أجيال متعاقبة، لدرجة أن مسرحيتها الشهيرة (مصيدة الفئران) ظلت تعرض بشكل متواصل لمدة زادت على نصف قرن.

ومن هذا وذاك ربما تعتبر أجاثا كريستي واحدة من أنجح الروائيات والكتاب في التاريخ، لكن السؤال البريء (وربما البعض قد يعتبره سؤالاً ساذجاً أو سؤالاً متكلفاً وله الحق في ذلك!) هو هل كان لعلم الكيمياء دور في هذا النجاح المدوي والأسطوري لملكة الجريمة المتوجة أجاثا كريستي.

كما هو معلوم فإن سر نجاح روايات أجاثا كريستي هو الحبكة البوليسية والغموض والتشويق الذي ينتج من عمليات قتل غامضة يطلب الكشف عنها تقديم الأدلة الدامغة التي تربط القاتل بالجريمة. وفي أغلب رواياته تكون أداة القتل المثالية التي تضمن خلق أجواء الغموض والتشويق هي استخدام السموم الكيميائية في عملية القتل.

المعلومة البالغة الأهمية التي يجدر كشف النقاب عنها، لأنها (الدليل الجنائي الملموس) لإثبات العلاقة الإبداعية بين أجاثا كريستي وعلم الكيمياء، هي أن السيدة كريستي عملت لفترة ما من شبابها وفي أثناء الحرب العالمية الأولى كمتطوعة في مهنة التمريض، ومن هنا اكتسبت خبرة واسعة جداً عن الأدوية والمواد الكيميائية لدرجة مكنتها من تحضير وتجهيز العقاقير الصيدلانية بنفسها، (وهذا يتطلب خبرة كيميائية عالية)، كما أنه كان لها خبرة ثرية وعميقة بالسموم والمواد المتعلقة بالجرائم، وهذا يرجح ما تناقلته بعض المصادر التاريخية بأنها خلال فترة تطوعها للعمل في مستوصف توزيع الأدوية في نهاية سنوات الحرب كانت تشغل نفسها بدراسة الكيمياء، ومن المحتمل أن ذلك كان للاستعداد لدخول الاختبارات اللازمة للعمل في مهنة الصيدلة.

استناداً إلى خبرتي العلمية (وإن كانت متواضعة) في علم الكيمياء أود أن أسجل كامل وعميق انبهاري من المعرفة الكيميائية الدقيقة التي سطرتها أجاثا كريستي في روايتها البوليسية الأولى والتي بدأت في كتابتها وهي بعد في سن العشرين. وهذا ما نلمسه بكل جلاء في تلك الرواية الأولى لها والتي أطلقت عليها اسم رواية: قضية ستايلز الغامضة (the mysterious affair at Styles) والتي تدور أحداثها حول مقتل السيدة إيميلي إنجلتروب مالكة قصر ستاليز في الريف الإنجليزي.

هنا نجد أن الحبكة والمعمار الدرامي للرواية مبنية على قيام القاتل بتسميم سيدة القصر بطريقة ذكية جداً، حيث كانت تتناول مشروب دواء عبارة عن محلول لبروميد الصوديوم NaBr يستخدم لعلاج التوتر العصبي الذي تعانيه، كما أن القتيلة كانت كذلك في الوقت نفسه تتناول مشروب دواء الستريكنن strychnine hydrochloride  والذي يعد فعالاً كعلاج منبه عند تناوله بكميات قليلة، ولكن الإفراط في تناول الكميات العالية منه يؤدي لحصول تسمم قاتل. وهنا يستخدم القاتل معرفته الصيدلانية بهذين الدوائين، وأن عملية مزج هذين المشروبين تتسبب في ترسيب دواء الستريكنن في قعر الكأس (وبالتالي زيادة تركيزه)، وبهذا عندما تتناول السيدة المغدورة إيميلي إنجلتروب جرعتها المعتادة من هذا المشروب لا تكون تعلم بأنها في الواقع قد تناولت جرعة مكثفة ومميتة.

بكل تجرد لكي يستطيع أي شخص أو كاتب أن (يحبك) مثل هذا السيناريو للحبكة الدرامية لعملية التسمم غير المقصود فإنه يحتاج إلى أن يكون على إلمام جيد بمبدأ الاتزان الكيميائي وأثر إضافة الأملاح على ما يسمى مفهوم حاصل الإذابة solubility products، ذلك المفهوم العلمي المتخصص الذي يدرس لطلاب الجامعة!!.

إذا كان ذلك مستوى الخبرة الكيميائية والصيدلانية لملكة الجريمة السيدة كريستي في روايتها الأولى وفي بواكير شبابها فمن المؤكد أن خبرتها وثقافتها العلمية والكيميائية والصيدلانية سوف تزداد وتتعمق مع مضي السنوات وتضافر الخبرات. وخير مثال على ذلك أنك تجدها في روايتها شبه الأخيرة، أي رواية الستارة (Curtain: Poirot`s last case) التي نشرت عام 1975، أي قبل وفاتها بفترة قصيرة جداً، ففي هذه الرواية تكاد تجد أسماء المركبات الكيميائية والصيدلانية تقريباً في جميع فصول الرواية وبشكل ملحوظ جداً ما بين اسم دواء أو مادة منومة أو مادة سامة، بل وصل الأمر أنك تجد في صفحة واحدة فقط أسماء مركبات اشباه القلويات alkaloids التالية (الايفنزوستغمينوإسيرينالفيزوفينوالجينيسرينوبروستغمين وملح ديمثيلكاربونيكإستر) وكأنك بذلك تقرأ كتاباً متخصصاً في الكيمياء العضوية وليس رواية أدبية مسلية. وفي نفس تلك الرواية البوليسية الختامية (رواية الستارة والتي سميت كذلك لأنه في آخرها يتم موت المحقق الأسطورة هيركيولبوارو، كما أنها آخر رواية نشرت في حياة أجاثا كريستي) نجد أجاثا تذكر اسم واحد من اشهر المواد والكواشف الكيميائية وهو مركب أزرق الميثيلين methylene blue والذي يستخدم كصبغات ملونة وككاشف كيميائي لتفاعلات ومعايرات الأحماض والقواعد التي يجب أن يجريها كل من درس مادة الكيمياء بالجامعة.

وبعيداً عن السموم والأدوية الصيدلانية توجد أمثلة إضافية للذكاء الكبير والبراعة العالية للسيدة كريستي في توظيف خبرتها الكيميائية لتعزيز الحبكة الإجرامية في رواياتها الجنائية. وهذا ما نلمسه مثلاً في رواية جريمة في القرية (The murder at the vicarage)، حيث نجد أن القاتل لكي يضلل الآخرين يحتاج إلى أحداث صوت يشابه صوت إطلاق بندقية (وهي أداة القتل في تلك الجريمة)، يأتي من مكان بعيد عن مسرح الجريمة الحقيقي، وبهذا تتم الجريمة الفعلية في موقع معين بينما يتم جذب انتباه سكان القرية إلى مكان آخر. وهنا تكون وسيلة القاتل لإحداث هذا الصوت هو أن يسقط حجر ثقيل على قنينة زجاجية تحوي حمض البكريك picric acid  الذي يتسبب في إصدار صوت فرقعة شبيه بصوت الطلقة.

لعل معلومة أن حمض البكريك من المواد القابلة للانفجار معلومة قد يطلع عليها أي كيميائي، ولكن توقع أن صوته انفجاره يشابه صوت طلقة البندقية هذا يحتاج لخيال واسع أو لشخص قام بتجريب هذا الانفجار على أرض الواقع، وفي أي من الحالتين تستحق مدام كريستي الإعجاب اللائق.

حبكة كيميائية أخرى تستحق الإعجاب من السيدة كريستي لخداع الأشخاص المشاركين في القصة هو ما نجده في رواية جريمة عيد الميلاد (HerculePoirot’s Christmas) والحبكة الكيميائية هذه المرة تتمثل في أن القاتل بعد أن يذبح الضحية يستعين بالكيمياء حتى يجعل وقت الجريمة متأخراً عن موعده الحقيقي، ولهذا يضيف القاتل مادة سترات الصوديوم إلى بركة الدم التي نزفت من الضحية حتى لا يتخثر دمها إلا ببطء، وبهذا تظهر عملية القتل وكأنها حصلت حديثاً، بينما هي في الواقع قد حصلت قبل ذلك بعدة ساعات، مما يوفر للقاتل الادعاء بأنه وقت وقوع الجريمة كان في مكان آخر.

وأخيرا فيما يخص التطواف الكيميائي في لب الحبكة البوليسية لروايات أجاثا كريستي تجدر الإشارة إلى أنه لا يقتصر توظيف أجاثا للكيمياء في روايتها الأدبية باستخدام أسماء وبعض خواص المركبات الكيميائية فحسب، بل يصل الأمر لدرجة أكثر عمقاً عند استخدامها لبعض المفاهيم والعمليات الكيميائية.

وقد سبق الحديث عن احتمالية الإدراك العميق للروائية كريستي لمفهوم الاتزان الكيميائي واستخدامها له في روايتها الخالدة (الستارة)، لكن أيضاً في نفس تلك الرواية نجد أن أجاثا كريستي توظف مفهوم التحفيز والحفازات catalyst، ومفهم الحفز الكيميائي كما هو معلوم يتعلق بقيام مادة كيميائية بعمل الوسيط والمسهل (والمحفز) لحصول تفاعل مادتين، ومن ثم تخرج المادة الحفازة كما هي بحيث لا تستهلك في التفاعل. والقاتل الذي ولده الخيال الخصب لأجاثا كريستي في رواية (الستارة) من نوعية خاصة وفريدة جداً، فبالرغم من أن هذا القاتل تسبب في خمس جرائم قتل مختلفة إلا أنه في واقع الأمر كان لا يقتل ضحاياه بنفسه وإنما كان دور هذا القاتل مثل دور المادة الكيميائية الحفازة catalyst التي تسهل حدوث التفاعل بين مادتين، وهما هنا في هذه الرواية البوليسية: القاتل المغرر به والضحية، بينما يكون القاتل الحقيقي دوره محرض على الجريمة ولا ينفذها بنفسه.

وفي الرواية المذكورة نجد توصيف أجاثا كريستي لهذا القاتل المحرض وغير المباشر بأن دوره محفز، وهذه عباراتها بنصها كما وردت في الرواية (أي مثل تفاعل بين مادتين يحصل فقط في وجود مادة ثالثة، ومن الواضح أن هذه المادة لا تشارك في التفاعل وتبقى كما هي من دون أن تتأثر. هذا هو الموقف وهذا يعني أن الجرائم تحدث حيث يكون القاتل (س) موجوداً ولكنه لا يشارك فيها بنفسه)، وهنا انتهى الاقتباس من الرواية كما للأسف انتهى الحديث عن البعد الكيميائي في روايات أجاثا كريستي بالرغم من وجود أمثلة ونماذج كيميائية في روايات أخرى مثل رواية (البيت المائل) ورواية (مقتل روجر أكرويد).

البعد الكيميائي لشخصية المحقق شارلوك هولمز

في عام 2002 قامت الجمعية الكيميائية الملكية البريطانية (RSC) بمنح عضويتها الشرفية للشخصية الخيالية (المحقق شارلوك هولمز Sherlock Holmes) التي ابتكرها الروائي البريطاني البارز السير آرثر كانون دويل، وكذلك قامت الجمعية الكيميائية بنصب تمثال له في شارع بيكر ستريت في لندن، حيث يقع منزله (الوهمي) الشهير. والسبب في منح هذه الشخصية الخيالية لعضوية الجمعية الكيميائية الشرفية يبدو أنه كنوع من استثمار الشهرة المدوية لشخصية شارلوك هولمز، حيث إن ربط تلك الشخصية البارزة والمحبوبة بعلم الكيمياء سوف يحقق دعاية فعالة للكيمياء والكيميائيين، وما ذلك إلا للدور الإيجابي الذي أضفاه هذا المفتش الأسطوري على الكيمياء عندما وظّف العلوم الكيميائية لحل ألغاز جرائم غاية في الحبك والتعقيد.  

بكل وضوح ومنذ الرواية الأولى التي ظهرت فيها شخصية شارلوك هولمز (رواية دراسة باللون القرمزي المنشورة عام 1887) تم توصيفه فيها بأنه كيميائي من الدرجة الأولى، بينما نجد أن معاونه الرئيس الدكتور الطبيب واطسون يصرح بأن معرفة زميله هولمز في الكيمياء عميقة profound، ويصف واطسون في موضع آخر أصابع هولمز بأنها غالباً ما تكون مصبوغة ببقع داكنة ناتجة من المواد الكيميائية التي يتعامل بها مثل الأحماض التي تحرق أصابعه.

أليس لافتا للنظر أن اللقاء الأول بين هاتين الشخصيتين المتلازمتين (أي هولمز والدكتور واطسون) حصل عندما انتقل الدكتور واطسون للعيش في لندن، وأخذ يبحث عن سكن رخيص، وهنا أرشده أحد أصدقائه أن السيد شارلوك هولمز الذي يعمل في مختبر كيميائي في مستشفى قريب قد يرغب هو الآخر في أن يجد شخصاً يتعاون معه في دفع أجار المنزل، وبهذا تم التعرف بينهما في مختبر الكيمياء، بل وفي اللحظة التي كان هولمز يصافح بيده اليمنى الدكتور واطسون في أول لقاء بينهما كانت يده اليسرى تحمل أنبوبة اختبار كيميائي، حيث كان هولمز في تلك اللحظة يقوم بإجراء بعض التجارب الكيميائية والتي تتعلق باختراع مادة كيميائية تستطيع الكشف بدقة وبشكل سريع عن صبغة الهيموجلوبين الموجودة في الدم، وهذا أمر له أهمية في التفريق بين بقع الدم وبقع الأصباغ والألوان في مسرح الجريمة.

ولإعطاء مثال تفصيلي أكثر يوضح توصيف الدكتور واطسون للتجارب الكيميائية التي كان يجريها المحقق الكيميائي شارلوك هولمز ننقل هذا المقطع المطول من قصة مغامرة معاهدة البحرية (The adventure of naval treaty ) والتي يرويها الدكتور واطسون كالتالي:

( كان هولمز يعمل بجد على إجراء أبحاثه الكيميائية فقد كان دورق كبير يغلي بشدة فوق اللهب الأزرق لموقد بنسن، بينما كانت القطرات المائية المقطرة يجري تكثيفها وتجميعها في زجاجتين حجم كلا منهما لتر واحد. ثم قام هولمز بغمس ماصة زجاجية في واحدة من تلك الزجاجتين وسحب عدة قطرات منها، وأخيراً وضع على الطاولة أنبوبة اختبار تحتوي على محلول سائل، وفي يده اليمنى كان يحمل شريطاً من دليل ورقة تباع الشمس، ثم قال: لقد أتيت يا دكتور واطسون في اللحظة الحاسمة، إذا بقيت هذه الورقة زرقاء فهذا حسن، لكن إذا تغير لونها للأحمر فيعني ذلك نهاية حياة الرجل. وعندما غمس ورقة الدليل في أنبوب الاختبار سرعان ما تغير لونها في الحال للون القرمزي الباهت والمتعكر).

سنوات الضياع في حياة شارلوك هولمز

سبقت الإشارة إلى أن شخصية المحقق الأسطورة شارلوك هولمز كانت من بنات أفكار واختراع الأديب البريطاني السير آرثر كونان دويل والذي قام ولسنوات طويلة بنشر سلسلة من  القصص والروايات البوليسية التي لاقت نجاحاً منقطع النظير.

 لكن الطموح الأدبي للروائي البارز آرثر دويل لم يتوقف هنا، حيث قام كذلك بنشر عدة روايات تاريخية ورومانسية، لكنها لم تلقَ الانتشار والاهتمام الأدبي مثل رواياته البوليسية، ولهذا قام في عام 1893 بإصدار رواية بوليسية باسم (المشكلة الأخيرة) تكون خاتمتها مقتل شخصية شارلوك هولمز (وذلك بعد ست سنوات فقط من نشر أول رواية عنه عام 1887)، وما ذلك إلا محاولة من الكاتب أن يتيح المجال لإنتاجه الأدبي الآخر غير البوليسي بالانتشار والاشتهار. إلا أن السير آرثر دويل اضطر عام 1903وتحت ضغط كبير من جمهور القراء الغاضبين أن يعيد مرة أخرى إظهار شخصية شارلوك هولمز في روايات وقصص بوليسية جديدة بعد عشر سنوات من محاولة التخلص من شخصية هولمز الجذابة.

وفي قصة (مغامرة المنزل الخالي The adventure of the empty house)، وهي أول قصة قصيرة ظهرت بعد عودة شارلوك هولمز كان عليه أن يفسر سبب اختفائه خلال (سنوات الضياع)، ولهذا زعم شارلوك هولمز أنه بعد أن نجا من السقوط القاتل من أعلى الشلالات الألمانية الشاهقة أثناء صراعه مع عدوه اللدود البروفيسور موريرتي (كما ورد في نهاية رواية المشكلة الأخيرة) فضل شارلوك أن يوهم أعداءه بأنه قد قتل.

وخلال الثلاث سنوات التي اختفى فيها قام برحلات وزيارات لبلدان بعيدة كان من ضمنها أراضي التبت وبلاد فارس ومدينة الخرطوم، بل إنه زعم أنه اعتقل لفترة من الزمن في مدينة مكة المكرمة!!.

على كل حال من المنظور الكيميائي الذي يهمنا من تغريبة بني هلال الهولمزية الفقرة التالية في قصة مغامرة المنزل الخالي:

(.. بعد ذلك رجعت لفرنسا، حيث قضيت عدة أشهر أقوم بإجراء بحث لدراسة كيمياء مشتقات قطران الفحم والتي أجريتها في مختبر في مدينة مونبيلية في جنوب فرنسا).

وبمناسبة ذكر المختبرات التي كان يعمل بها شارلوك هولمز فأي شخص يقوم بزيارة متحف شارلوك هولمز في لندن من المحتمل أن يلفت انتباهه العديد من القوارير الزجاجية التي تحوي كماً هائلاً من المركبات والمحاليل الكيميائية التي يفترض أن شارلوك كان يستخدمها لإجراء تحاليله الكيميائية الهادفة للكشف عن خبايا الجرائم الغامضة.

وكمثال لقصص شارلوك هولمز البوليسية التي ذكر فيها وبشكل صريح المختبر الكيميائي في منزل السيد هولمز نجد في قصة قضية هوية (A case of identity) أن الدكتور واطسون يذكر أنه في مساء إحدى الليالي توجه لمنزل صديقة السيد هولمز الموجودة في شارع بيكر ستريت:

(وجدت السيد شارلوك هولمز وحيداً ونصف نائم، ونظرا لوجود مصفوفة هائلة من الزجاجات وأنابيب الاختبار التي تفوح منها رائحة حمض الهيدروكلوريك الحادة، علمت أنه قضى يومه في الأبحاث الكيميائية المهمة جداً بالنسبة له.

وحال دخولي عليه سألته: حسناً .. هل حللت المسألة، فأجاب نعم لقد كانت كبريتات الباريوم. فصرخت قائلا: لا  لا أنا  أقصد هل حللت القضية الغامضة، فكان جوابة: آه ظننتك تقصد الملح الذي كنت أعمل عليه).

وبهذا المقطع الأخير نختم الحديث عن الخبرة الكيميائية العالية للسيد هولمز سواء في علم الأيونات المعدنية ورواسبها وبلوراتها أو المواد الطبية والأدوية الصيدلانية أو السموم والمواد المخدرة، وغيرها كثير مبثوث في العديد من الروايات والقصص عن المحقق البوليسي الأسطورة السيد هولمز.

متحف شورلوك هولمز بمدينة لندن
  • نُشرت المقالة في العدد الثالث من مجلة المجموعة العلمية لعلوم الأدلة الجنائية. 

معجب بهذه:

إعجاب تحميل...

احصل على نسختك الآن

%d مدونون معجبون بهذه: