في عام 2002 قامت الجمعية الكيميائية الملكية البريطانية (RSC) بمنح عضويتها الشرفية للشخصية الخيالية (المحقق شارلوك هولمز Sherlock Holmes) التي ابتكرها الروائي البريطاني البارز السير آرثر كانون دويل، وكذلك قامت الجمعية الكيميائية بنصب تمثال له في شارع بيكر ستريت في لندن، حيث يقع منزله (الوهمي) الشهير. والسبب في منح هذه الشخصية الخيالية لعضوية الجمعية الكيميائية الشرفية يبدو أنه كنوع من استثمار الشهرة المدوية لشخصية شارلوك هولمز، حيث إن ربط تلك الشخصية البارزة والمحبوبة بعلم الكيمياء سوف يحقق دعاية فعالة للكيمياء والكيميائيين، وما ذلك إلا للدور الإيجابي الذي أضفاه هذا المفتش الأسطوري على الكيمياء عندما وظّف العلوم الكيميائية لحل ألغاز جرائم غاية في الحبك والتعقيد.
بكل وضوح ومنذ الرواية الأولى التي ظهرت فيها شخصية شارلوك هولمز (رواية دراسة باللون القرمزي المنشورة عام 1887) تم توصيفه فيها بأنه كيميائي من الدرجة الأولى، بينما نجد أن معاونه الرئيس الدكتور الطبيب واطسون يصرح بأن معرفة زميله هولمز في الكيمياء عميقة profound، ويصف واطسون في موضع آخر أصابع هولمز بأنها غالباً ما تكون مصبوغة ببقع داكنة ناتجة من المواد الكيميائية التي يتعامل بها مثل الأحماض التي تحرق أصابعه.
أليس لافتا للنظر أن اللقاء الأول بين هاتين الشخصيتين المتلازمتين (أي هولمز والدكتور واطسون) حصل عندما انتقل الدكتور واطسون للعيش في لندن، وأخذ يبحث عن سكن رخيص، وهنا أرشده أحد أصدقائه أن السيد شارلوك هولمز الذي يعمل في مختبر كيميائي في مستشفى قريب قد يرغب هو الآخر في أن يجد شخصاً يتعاون معه في دفع أجار المنزل، وبهذا تم التعرف بينهما في مختبر الكيمياء، بل وفي اللحظة التي كان هولمز يصافح بيده اليمنى الدكتور واطسون في أول لقاء بينهما كانت يده اليسرى تحمل أنبوبة اختبار كيميائي، حيث كان هولمز في تلك اللحظة يقوم بإجراء بعض التجارب الكيميائية والتي تتعلق باختراع مادة كيميائية تستطيع الكشف بدقة وبشكل سريع عن صبغة الهيموجلوبين الموجودة في الدم، وهذا أمر له أهمية في التفريق بين بقع الدم وبقع الأصباغ والألوان في مسرح الجريمة.
ولإعطاء مثال تفصيلي أكثر يوضح توصيف الدكتور واطسون للتجارب الكيميائية التي كان يجريها المحقق الكيميائي شارلوك هولمز ننقل هذا المقطع المطول من قصة مغامرة معاهدة البحرية (The adventure of naval treaty ) والتي يرويها الدكتور واطسون كالتالي:
( كان هولمز يعمل بجد على إجراء أبحاثه الكيميائية فقد كان دورق كبير يغلي بشدة فوق اللهب الأزرق لموقد بنسن، بينما كانت القطرات المائية المقطرة يجري تكثيفها وتجميعها في زجاجتين حجم كلا منهما لتر واحد. ثم قام هولمز بغمس ماصة زجاجية في واحدة من تلك الزجاجتين وسحب عدة قطرات منها، وأخيراً وضع على الطاولة أنبوبة اختبار تحتوي على محلول سائل، وفي يده اليمنى كان يحمل شريطاً من دليل ورقة تباع الشمس، ثم قال: لقد أتيت يا دكتور واطسون في اللحظة الحاسمة، إذا بقيت هذه الورقة زرقاء فهذا حسن، لكن إذا تغير لونها للأحمر فيعني ذلك نهاية حياة الرجل. وعندما غمس ورقة الدليل في أنبوب الاختبار سرعان ما تغير لونها في الحال للون القرمزي الباهت والمتعكر).
سنوات الضياع في حياة شارلوك هولمز
سبقت الإشارة إلى أن شخصية المحقق الأسطورة شارلوك هولمز كانت من بنات أفكار واختراع الأديب البريطاني السير آرثر كونان دويل والذي قام ولسنوات طويلة بنشر سلسلة من القصص والروايات البوليسية التي لاقت نجاحاً منقطع النظير.
لكن الطموح الأدبي للروائي البارز آرثر دويل لم يتوقف هنا، حيث قام كذلك بنشر عدة روايات تاريخية ورومانسية، لكنها لم تلقَ الانتشار والاهتمام الأدبي مثل رواياته البوليسية، ولهذا قام في عام 1893 بإصدار رواية بوليسية باسم (المشكلة الأخيرة) تكون خاتمتها مقتل شخصية شارلوك هولمز (وذلك بعد ست سنوات فقط من نشر أول رواية عنه عام 1887)، وما ذلك إلا محاولة من الكاتب أن يتيح المجال لإنتاجه الأدبي الآخر غير البوليسي بالانتشار والاشتهار. إلا أن السير آرثر دويل اضطر عام 1903وتحت ضغط كبير من جمهور القراء الغاضبين أن يعيد مرة أخرى إظهار شخصية شارلوك هولمز في روايات وقصص بوليسية جديدة بعد عشر سنوات من محاولة التخلص من شخصية هولمز الجذابة.
وفي قصة (مغامرة المنزل الخالي The adventure of the empty house)، وهي أول قصة قصيرة ظهرت بعد عودة شارلوك هولمز كان عليه أن يفسر سبب اختفائه خلال (سنوات الضياع)، ولهذا زعم شارلوك هولمز أنه بعد أن نجا من السقوط القاتل من أعلى الشلالات الألمانية الشاهقة أثناء صراعه مع عدوه اللدود البروفيسور موريرتي (كما ورد في نهاية رواية المشكلة الأخيرة) فضل شارلوك أن يوهم أعداءه بأنه قد قتل.
وخلال الثلاث سنوات التي اختفى فيها قام برحلات وزيارات لبلدان بعيدة كان من ضمنها أراضي التبت وبلاد فارس ومدينة الخرطوم، بل إنه زعم أنه اعتقل لفترة من الزمن في مدينة مكة المكرمة!!.
على كل حال من المنظور الكيميائي الذي يهمنا من تغريبة بني هلال الهولمزية الفقرة التالية في قصة مغامرة المنزل الخالي:
(.. بعد ذلك رجعت لفرنسا، حيث قضيت عدة أشهر أقوم بإجراء بحث لدراسة كيمياء مشتقات قطران الفحم والتي أجريتها في مختبر في مدينة مونبيلية في جنوب فرنسا).
وبمناسبة ذكر المختبرات التي كان يعمل بها شارلوك هولمز فأي شخص يقوم بزيارة متحف شارلوك هولمز في لندن من المحتمل أن يلفت انتباهه العديد من القوارير الزجاجية التي تحوي كماً هائلاً من المركبات والمحاليل الكيميائية التي يفترض أن شارلوك كان يستخدمها لإجراء تحاليله الكيميائية الهادفة للكشف عن خبايا الجرائم الغامضة.
وكمثال لقصص شارلوك هولمز البوليسية التي ذكر فيها وبشكل صريح المختبر الكيميائي في منزل السيد هولمز نجد في قصة قضية هوية (A case of identity) أن الدكتور واطسون يذكر أنه في مساء إحدى الليالي توجه لمنزل صديقة السيد هولمز الموجودة في شارع بيكر ستريت:
(وجدت السيد شارلوك هولمز وحيداً ونصف نائم، ونظرا لوجود مصفوفة هائلة من الزجاجات وأنابيب الاختبار التي تفوح منها رائحة حمض الهيدروكلوريك الحادة، علمت أنه قضى يومه في الأبحاث الكيميائية المهمة جداً بالنسبة له.
وحال دخولي عليه سألته: حسناً .. هل حللت المسألة، فأجاب نعم لقد كانت كبريتات الباريوم. فصرخت قائلا: لا لا أنا أقصد هل حللت القضية الغامضة، فكان جوابة: آه ظننتك تقصد الملح الذي كنت أعمل عليه).
وبهذا المقطع الأخير نختم الحديث عن الخبرة الكيميائية العالية للسيد هولمز سواء في علم الأيونات المعدنية ورواسبها وبلوراتها أو المواد الطبية والأدوية الصيدلانية أو السموم والمواد المخدرة، وغيرها كثير مبثوث في العديد من الروايات والقصص عن المحقق البوليسي الأسطورة السيد هولمز.