عندما أردت أن أكتب هذه المقالة عادت بي الذاكرة – بشكل عفوي – إلى أكثر من ثمانية وعشرين عاماً، وبالضبط في عام 1413هـ – 1992م، وذلك عندما كنا ثلاثة من الفاحصين في مختبر الفحوص الوراثية بإدارة الأدلة الجنائية آنذاك، حيث كنا نقوم بتحضير العديد من المحاليل والكواشف اللازمة، وإجراء خطوات طويلة ومضنية من أجل فحص قضية نسب واحدة بواسطة تقنية (Restriction Fragment Length Polymorphism)، أو ما يعرف اختصاراً (RFLP). كانت بعض تلك الخطوات تستلزم أن تكون بداية حقن مستخلص العينات من المادة الوراثية مساءً، حيث يلزم مرور خمس عشرة ساعة لفصل أجزاء المادة الوراثية في الوسط الجيلاتيني كواحدة من خطوات الفحص بهذه التقنية، ولا يستحضر قدر العناء الذي يصاحب هذه المراحل إلا من باشرها شخصياً، فضلاً عن صعوبة قراءة نتائج العينات التي تظهر على أفلام الأشعة السينية على هيئة خطوط أو مقاطع شبيهة – إلى حدٍ ما – بالخطوط التي تكون على البضائع المختلفة (Barcode)، مما كان يعني بالنسبة للفاحصين أولاً وللعمل الجنائي بشكل عام الحاجة الماسة للتوصل إلى أي ابتكار يمكن أن يوفر الوقت والجهد المبذولين أثناء فحص العينات، بل ويمكّن من الحصول على نتائج مفيدة في العديد من القضايا والعينات التي كانت تقنية (RFLP) تقف عاجزة عنها، نظراً لكون هذه التقنية تحتاج إلى كمية كبيرة نسبياً من المادة الوراثية، مما يندر وجود مثلها في مسارح الجرائم المختلفة، ونقف بسبب ذلك مكتوفي الأيدي إلا من الاعتذار عن الحصول على نتائج يمكن أن تساعد في سير التحقيق في تلك القضايا بشكل إيجابي.
ولم تمر سوى بضع سنوات، وإذا بعددٍ من الاكتشافات الجديدة تتوالى على أكثر من محور، كلها أسهمت في اختصار الوقت والجهد اللازم لفحص العينات الوراثية بشكل لم نكن نتخيله، وإذا بالقضايا السلبية التي تكتب تقاريرها دون نتائج تصبح في حكم النادر، فقد اكتشف كاري موليس عام 1985م تقنية مكاثرة المادة الوراثية (Polymerase Chain Reaction) أو ما يعرف اختصاراً (PCR) من خلال توظيف أحد أنزيمات بناء المادة الوراثية لنوع من البكتيريا التي تعيش في المياه الحارة (Thermus Aquaticus)، وحصل موليس على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1993م إثر هذا الاكتشاف ، وتوفي في هذا العام 2019 م ، وقد أمكن توظيف تقنية مكاثرة المادة الوراثية في عدد من المجالات البحثية والتشخيصية في التطبيقات الطبية والزراعية والجنائية وغيرها، وكانت بداية استخدامها في المجال الجنائي في منتصف التسعينيات الميلادية ، حيث بدأت بالكشف عن التنوع الوراثي في مواقع محدودة كان من أبرزها (HLA DQα , Poly Marker). كما اكتشفت – على المحور الثاني – مواقع جديدة على المادة الوراثية تختلف عن المواقع التي تكشف عنها التقنية السابقة (RFLP)، وكانت لها مواصفات مقاربة من حيث وجودها في جميع الناس، واختلاف أعدادها فيما بينهم، إلا أن أعداد تلك المواقع المكتشفة آنذاك لم يكن لها القوة نفسها في الإثبات، وقد أطلق على تلك المواقع التكرارات القصيرة المترادفة (Short Tandem Repeats) أو ما عرف اختصاراً بـ (STRs) في الفترة الزمنية ذاتها، كما أمكن الاستفادة من دراسة التنوع في تتابعات المادة الوراثية في الميتوكوندريا (Mitochondria) – التي تورث عن طريق الأمهات عدا بعض الحالات النادرة جداً – حيث وظفت في أنواع من القضايا الجنائية، وقضايا النسب، وبالذات في العينات شديدة التحلل أو القضايا التي يتعذر وجود أركان مقارنة كافية فيها. وبعدها بسنيّات قليلة بدأ الاستغناء عن عدد من الوسائل المستخدمة لفصل أجزاء المادة الوراثية في الوسط الجيلاتيني، سواء من الأجاروز أو البولي أكريلاميد، واستخدمت عوضاً عن ذلك الأنابيب الشعرية الدقيقة، وذلك لتمرير أجزاء المادة الوراثية عبر تلك الأنابيب الشعرية على شعاع من الليزر وكاميرا مزودة بعدد من الفلاتر، ومرتبطة ببرامج حاسوبية تقوم بتحليل نتائج تلك العينات وتحولها إلى منحنيات بألوان مختلفة ومواقع مختلفة يمكن من خلالها قراءة السمات الوراثية للعينة التي نقوم بفحصها، وكان المحور الرقمي هو المحور الثالث الذي رافق تطوره تطور المحورين السابقين، حيث طورت برمجيات متعددة في إدارة العينات وتخزينها، وتحليل نتائجها، وحفظ تلك النتائج، وإجراء المقارنات بشكل سريع، وربطها بنتائج عينات سابقة في فترات زمنية مختلفة.
وفي هذا السياق بادرت العديد من دول العالم إلى إنشاء قواعد بيانات أو بنوك معلومات وراثية تخزن فيها السمات الوراثية للمتهمين أو المحكومين والسجناء في أنواع محددة من القضايا الجنائية حتى تجاوزت أعداد العينات في بعض الدول عشرة ملايين عينة، وزاد طموح بعض الدول مثل دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى ضرورة حصر السمات الوراثية لجميع السكان من المواطنين والمقيمين على أراضي هذه الدول، وكان لهذه البنوك من قواعد البيانات الوراثية الأثر البالغ في اكتشاف المئات من مرتكبي القضايا المسجلة ضد مجهول، وكذلك في تبرئة العديد من المتهمين في قضايا جنائية لم يرتكبوها. ومع اكتمال مشروع الجينوم البشري عام 2003م الذي شاركت فيه عدد من الدول في قارات العالم، أتاح ذلك الإنجاز فتح آفاقٍ جديدة، وكشف عن مواقع عديدة على طول المادة الوراثية، وفي جميع الكروموسومات بما فيها الكروموسوم الذكري (Y-Chromosome)، حيث مكّنت من التعرف على أعدادٍ إضافية من التكرارات القصيرة المترادفة (STRs)، مما أمكن معه تحقيق درجة مماثلة من قوة الإثبات بين نتائج تقنية (RFLP) وتقنية (PCR)، وهذا ما حدث بالفعل، كما كشف مشروع الجينوم البشري ما يزيد على ألف موضع على المادة الوراثية تتضمن ما يعرف بالتنوع الوراثي على مستوى النيوكليوتيدة الواحدة (Single Nucleotide Polymorphism) أو ما يعرف اختصاراً (SNPs)، ولم يكن ذلك نهاية المطاف في الاكتشافات التي تخدم الاستفادة من الفحوص الوراثية في المجال الجنائي، بل اعتبرت التقنيات الجديدة التي أدت إلى تسريع قراءة التتابع الكامل لمحتوى المادة الوراثية (الجينوم) بواسطة أجهزة وتقنيات الجيل الثاني (Second Generation Sequencing)، وليس كما هو الحال الآن في قراءة تتابع مواقع محددة فقط على المادة الوراثية، اعتبرت فتحاً جديداً يمكن أن يؤدي خلال سنوات قريبة قادمة إلى أن تكون عمليات المقارنة بين المادة الوراثية للعينات غير مقتصرة على مواضع معينة أو تكرارات محددة، وإنما سيتعدى ذلك – والله أعلم – إلى مقارنة كامل الجينوم للعينات موضع الفحص، مما سيحقق درجات عالية من اليقين بنتائج وتقارير الفحوص الوراثية ، بل وسيمكّن – بإذن الله تعالى – من بناء تصور لملامح وخصائص الشخص مصدر العينة الوراثية على الرغم من عدم وجوده في الموقع.
ولا يفوتني أن أشير إلى أنه منذ أن بدأ استخدام الفحوص الوراثية في القضايا الجنائية وقضايا النسب كان هاجس ورود الخطأ البشري أثناء فحص العينات نقطة جوهرية للنقد ومحلاً للقدح في صحة النتائج، ودقتها لدى القضاة في المحاكم، ولذا فقد حظيت هذه القضية باهتمام بالغ من خبراء الفحوص الوراثية، وكذلك من الشركات المتخصصة في تطبيقات الفحوص الوراثية لإيجاد بدائل عن المعالجة اليدوية للعينات تكون أكثر دقة ومصداقية، وأبعد عن الوقوع في الخطأ غير المقصود الذي يضعف قوة الاستدلال بنتائج تقنيات الفحوص الوراثية قضائياً، فاتجهت عدد من الشركات إلى ابتكار أنظمة آلية أو نصف آلية(Automated and Semi-automated Systems) بحيث تكون هي المباشرة لنقل العينات من مكان إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى أثناء الفحص دون أن يكون للعنصر البشري دور كبير في ذلك. وبالفعل فقد تحققت في هذا الجانب إنجازات مميزة، وصممت عدد من الأنظمة التي ساعدت في تسريع خطوات العمل، وتقليل التدخل البشري إلى أدنى حدٍ ممكن. وأخيراً وليس آخراً فإن الاكتشافات المتوالية من قبل الباحثين في معرفة ارتباط جين محدد أو أكثر مع صفة من الصفات الجسدية الظاهرية دعا المتخصصين في الفحوص الوراثية الجنائية للاستفادة من هذه النتائج في محاولة منهم لاستنباط بعض الملامح الظاهرية لمصدر العينة المجهولة المرفوعة من مسرح أي جريمة. إن النتائج المشجعة لهذه البحوث التي أظهرت إمكانية تحديد لون البشرة، ولون الشعر من خلال جينات محددة يمكن قراءة تتابعها على المادة الوراثية، وتحديد علاقة كل لون مع تتابع محدد في ذلك الجين. إن تلك النتائج الواعدة تنبئ عن إمكانية تحديد العديد من الملامح التفصيلية لمصدر أي عينة في المستقبل القريب بإذن الله، وهذا الأمر متى ما تحقق فإنه سيضاعف من قوة التمييز لتقنية الفحوص الوراثية في الحقل الجنائي، بل سيقودنا إلى عمل رسم تخيلي لملامح مصدر العينة الحيوية من خلال قراءة تتابع المادة الوراثية لعينته المرفوعة من مسرح الجريمة، مما سيعود على البشرية جمعاء بتحقيق قدر أكبر من العدالة في القضايا الجنائية المختلفة، ولعلنا في العالم العربي أن نشارك في تحقيق هذا الإنجاز العلمي الكبير بإذن الله تعالى. تلك هي ثمرات الجهود البشرية المتراكمة عبر خمسة وثلاثين عاماً من البحث الدؤوب والجهود المشتركة والمؤتمرات والندوات الدولية واللجان العلمية في عدد من المنظمات الدولية قادت بعد توفيق الله تعالى إلى هذا الإنجاز البشري الفاخر.
Awesome post! Keep up the great work! 🙂
Great content! Super high-quality! Keep it up! 🙂